نعرف جميعًا أن القانون بكل فروعه هو الذى ينظم الحياة بكل جوانبها فى الدولة الحديثة. غير أنه من مسلمات فلسفة القانون أن أى تشريع لكى يحقق أهدافه لابد له أن يقوم على مبدأ مراعاة توازن المصالح. بمعنى أنه لا يحق للمشرع أن ينحاز لطبقة اجتماعية على حساب الطبقات الاجتماعية الأخرى وإلا خرج تشريعا فاسدا فاقدا للصلاحية. بل إنه –فى هذه الحالة- قد يكون بداية لصراع اجتماعى حاد يؤدى إلى توترات سياسية عنيفة قد لا تستطيع الدولة مهما كانت أجهزتها قوية مواجهتها.
غير أن المجتمعات المعاصرة لا تعتمد فى تدبير شئونها على القانون فقط وذلك لأن التشريعات إذا كانت تقوم بدور محورى فى تنظيم الحياة الاجتماعية فإن التقاليد والأعراف تقوم إلى جانبها بدور أساسى لا يقل أهمية.
ويمكن القول إن لكل مهنة من المهن تقاليدها وأعرافها الملزمة. ولو نظرنا إلى مهنة القضاء لوجدنا أن العاملين فى الهيئات القضائية على تنوعها مثل المحاكم المختلفة وعلى رأسها جميعا المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض، بالإضافة إلى محاكم مجلس الدولة المتنوعة، وعلى رأسها المحكمة الإدارية العليا وكذلك هيئة قضايا الدولة، كل هذه المحاكم تحكمها الأعراف والتقاليد بالإضافة إلى التشريعات الملزمة.
ومن بين هذه التقاليد والأعراف الملزمة أنه إذا خلا منصب رئيس المحكمة الدستورية العليا –على سبيل المثال- أو رئيس محكمة النقض فإن الذى يختار لرئاسة المحكمة يكون هو أقدم مستشار من أعضائها. أى أن الأقدمية المطلقة هى المعيار الملزم. وهو فى الحقيقة معيار موضوعى لأنه لا يتأثر بأهواء السلطة التنفيذية بل إنه يقيد حركتها إن شاءت أن تحيد عن الطريق القويم فى اختيار القيادات القضائية.
غير أن المجتمع فوجئ فى الواقع باقتراح لمجلس النواب لا يعرف الرأى العام من وراءه لتعديل قانون السلطة القضائية، فيما يتعلق باختيار رؤساء المحاكم الذى كان ولا يزال يتم على أساس الأقدمية المطلقة. وذلك بتعديل قانونى مفاده ترشيح ثلاثة مستشارين يختار من بينهم رئيس الجمهورية من يكون رئيس المحكمة.
وذلك فى الواقع اعتداء خارج على التقاليد والأعراف القضائية لأن فيه إهدارًا لمعيار موضوعى فى الواقع وهو الأقدمية المطلقة.
وقد نشر فى صحيفة «المصرى اليوم» خبر فى الصفحة الأولى من العدد الصادر فى يوم ٢٩ ديسمبر ٢٠١٦ عنوانه «تصاعد غضب القضاة ضد تعديل القانون: مرفوض بالكامل».
وجاء فى الموضوع «صعدت مجالس إدارات أندية القضاة ومجلس الدولة والنيابة الإدارية وقضايا الدولة احتجاجاتها ضد رغبة مجلس النواب فى إجراء تعديلات على قانون السلطة القضائية بتوسيع اعتراضها الذى كان يقتصر على رفض تعديل المادة الخاصة بطريقة اختيار رؤساء الهيئات القضائية ليشمل جميع التعديلات المقترحة على القانون بشكل كامل.
وأعلنت المجالس فى بيان أمس عقب اجتماعها فى نادى قضاة مصر أمس الأول أن الاختيار بالأقدمية المطلقة من الثوابت والأعراف القضائية وأنه معيار موضوعى لا تتدخل فيه الأهواء مشيرة إلى أن الدستور ينص على «السلطة القضائية مستقلة والتدخل فى شئونها جريمة لا تسقط بالتقادم». وكل جهة أو هيئة قضائية تقوم على شئونها ويؤخذ رأيها فى مشروعات القوانين المنظمة لشئونها.
والواقع أن هذه نصوص قاطعة فى مجال اعتبار الأقدمية المطلقة هى المعيار الذى ينبغى الاعتماد عليه فى اختيار رؤساء الهيئات القضائية.
ومن هنا يحق التساؤل: من وراء الاقتراحات المقدمة فى مجلس النواب لتغيير قانون السلطة القضائية؟، وهل تم ذلك بإيعاز من قبل إحدى الجهات فى الدولة؟، أم انه مبادرة من قبل بعض النواب فى مجال التقرب غير المشروع من أجهزة الدولة حتى تطلق يدها فى اختيار رؤساء الهيئات القضائية حسب ما ترى وتقدر؟.
أيا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة فإن الاقتراح المقدم من مجلس النواب ينبغى سحبه لأنه اعتداء غير مقبول على الأعراف والتقاليد القضائية التى تكمن حكمتها فى إعطاء أى مستشار حقه فى رئاسة المحكمة أو الهيئة القضائية التى يعمل فيها ما دام يتمتع بالأقدمية المطلقة ولا يشوب تاريخه القضائى أى شائبة من أى نوع كانت.
لابد من احترام التقاليد والأعراف القضائية لأن مكانة القضاء العليا فى المجتمع أرفع من أن يتم العبث بها تحقيقا لأهداف سياسية غير مشروعة.