يعتبر التصنيع هو جوهر التنمية، وفى هذا الضوء ينبغى أن نعالج قضايا التصنيع فى البلدان النامية، بعد حسم قضية التناسب السليم بين كل من الصناعة الصغيرة والصناعة الكبيرة، وصناعة لإحلال الواردات أم صناعة للتصدير، وصناعة ثقيلة أم صناعة خفيفة، وصناعة كثيفة العمالة أم صناعة كثيفة رأس المال.
واليوم إذ تسلك البلدان المتخلفة طريق التنمية الاقتصادية فى عصر الثورة العلمية والتكنولوجية التى أودت بكثير من التصورات عن أساليب التصنيع، ينبغى أن تعالج قضايا التصنيع الجديد فى ضوء خصوصية أوضاع البلدان النامية، وأيضاً خصوصية أوضاع كل بلد نامٍ على حدة، فأوضاع مصر تختلف عن أوضاع السعودية أو جنوب السودان أو أى بلد آخر.
فلقد تم التصنيع من قبل فى البلدان المتقدمة استنادا إلى ما فى أوضاعها من خصوصية، فاستطاعت بريطانيا، استنادا إلى فتوحاتها فى المرحلة التجارية، أن تطور الصناعات الصغيرة والخفيفة، وبالذات صناعة النسيج، وبتزايد وتراكم رأس المال ونمو الطلب على المعدات بدأت تظهر صناعات أخرى، أهمها صناعة الآلات، واعتبر ذلك نمطاً تقليدياً للتصنيع الرأسمالى، غير أن البلدان التى تأخرت عن بريطانيا، كالولايات المتحدة وألمانيا، قد استطاعت اختصار الطريق وذلك باستخدام المنجزات الإنجليزية، ومن ثم تمكنتا بعد فترة قصيرة من تطوير الصناعة الخفيفة من البدء بسرعة فى إنشاء فروع حديثة للصناعة الثقيلة ما أدى إلى الإسراع بمعدلات النمو، ومن ثم اكتسب تطور الصناعة الثقيلة أهمية متزايدة. أما فى الاتحاد السوفيتى، فلقد تم التصنيع الحديث فى ظروف الحصار الرأسمالى الذى ختم بطابعه على أهداف ومراحل ومعدلات التصنيع، ومن ثم اعتمدت التجربة السوفيتية بالدرجة الأولى على الإمكانيات المحلية والسوق الداخلية.
ومصر عليها أن تختصر الطريق وذلك باستخدام المنجزات البريطانية والسوفيتية لأنها تواجه نفس المشاكل والتحديات التى كانت تواجه الروس من حصار اقتصادى رأسمالى سافر عندما بدأت فى إقامة التصنيع الحديث فى القرن الماضى.
وتتركز قضية التصنيع الأولى فى إطار صناعة صغيرة أم صناعة كبيرة ولا تتعلق هذه القضية بمستوى الإنتاج بقدر ما تتعلق بمستوى تطوير قوى الإنتاج، فالبلد النامى بدأ عملية التصنيع ولديه قطاع واسع من الحرف والصناعات اليدوية، فالإنتاج الصغير فى البلدان النامية قطاع له دور اقتصادى واجتماعى حاسم، وخاصة فى مجال توفير الغذاء وإنتاج المنتجات الخفيفة التى تتولى تصنيع الخامات المحلية أو المستوردة بهدف إشباع حاجات الاستهلاك، وعلى العكس المسار الذى اتخذه النمو الرأسمالى تاريخياً، حين تولى مهمة تحطيم الإنتاج الصغير، سواء كان زراعياً أو حرفياً، فإن الإنتاج الصغير فى البلدان النامية ليس مقضياً عليه بالانقراض، بل إن على الصناعة الصغيرة فى البلدان النامية أن تواجه الطلب الموجود من قبل عليها، بالإضافة إلى الطلب الجديد الناشئ عن التنمية والتصنيع، فهنا تتسع السوق للمستهلكين، ويخلق الطلب على سلع نصف مصنوعة، وحول الصناعة الكبيرة تتشكل فى الواقع شبكة من المشروعات الصغيرة تتغذى بمنتجات الصناعة الكبيرة أو تقدم إليها منتجاتها، ومن ثم يبقى الإنتاج الصغير مطلوباً.
ولهذا تلتزم عملية التصنيع فى مصر بالضرورة بالإبقاء على الإنتاج الصغير وتطويره بإقامة تناسب سليم بينه وبين الإنتاج الكبير، ويصبح المطلوب هو وضع الإطار التنظيمى الذى يكون من شأنه حماية وتشجيع الأشكال الدنيا من الصناعة، وخاصة الصناعات الحرفية واليدوية بهدف توفير إنتاج السلع الاستهلاكية واستقرار العمالة، وفى هذا الصدد توضع الحدود الموضوعية التالية لتطوير الإنتاج الصغير:
- إن أسلوب التعاون هو الإطار التنظيمى الذى يحتاجه الإنتاج الصغير لكى ينمو.
- ربط الإنتاج الصغير بشبكة من المعاملات بالإنتاج الآلى الكبير وبدعم من الدولة وخاصة من خلال الإدارة والتوجيه وأعمال التنسيق بين فروع قطاع الصناعة يكفل تزويد الإنتاج الصغير بمصدر لمستلزمات إنتاجه وسوق لمنتجاته.
والأمر يتوقف فى النهاية على اختيار المستوى الفنى للإنتاج الصغير، فأوضاع التقدم التكنولوجى الحالية تفتح فى الواقع آفاقاً واسعة أمام تجديد الإنتاج الصغير، وتزيد من كفاءته وذلك بمستوى منخفض نسبياً من رأس المال وبسعة أقل للوحدة الإنتاجية، وهنا فإنه لا يمكن إغفال قدرة الصناعة الصغيرة فى الورش المتطورة على إنتاج العديد من السلع الوسيطة وبعض الآلات، وهو أمر لا غنى عنه لإشباع السوق بالسلع ولتوظيف قوة العمل الفائضة بأقل نفقات رأسمالية.
ومع ذلك فإن التعويل فى التصنيع إنما يكون على الصناعة الكبيرة المؤهلة باستثماراتها الضخمة لاستخدام التكنولوجيا الحديثة، ومن ثم فهى القادرة على تركيز الإنتاج الأساسى، وفى ظل الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنه، اتسعت أحجام الوحدات الصناعية الاقتصادية إلى مدى كبير، وعلى سبيل المثال، فإن الطاقة الإنتاجية المناسبة لمجمع للحديد والصلب ذى دورة إنتاج كاملة ينبغى ألا تقل عن ٥ ملايين طن من الحديد الزهر و٦ ملايين طن من الصلب، أما الطاقة الإنتاجية المناسبة لمصنع أسمنت حديث فلا تقل عن مليون طن.
ويبلغ الحد الأدنى فى إنتاج سيارات الركوب ٦٥٠ ألف وحدة، وفى إنتاج سيارات الشحن والجرارات من ١٢٥ إلى ١٧٥ ألف وحدة.
ويعتبر توليد الطاقة الكهربائية أكثر كفاءة إذا كانت طاقة المحطات أكثر من مليون كيلو وات، وبهذه الأحجام، تطرح على البلدان النامية مسائل بالغة التعقيد، فهذه الصناعات الكبيرة تفترض استثمارات صحيحة، وهى لا تتصور بدون استخدام التكنولوجيا الحديثة، وعندئذ فهى تمثل محاولة للوفر فى العمل البشرى، أو تزيد من الطلب على العمل إلا قليلاً، بينما البلدان النامية تشكو من العمالة العاطلة، كذلك فهذه الصناعات تطلب تأمين التدفق المستمر والمنتظم لكميات هائلة من الخامات والوقود وخاصة الخامات المعدنية، مثلما تتطلب أسواقاً واسعة للتصريف، وهى فى النهاية تتطلب تنظيماً محكماً لإدارة الإنتاج سواء على مستوى الوحدة الاقتصادية أو على مستوى الاقتصاد القومى، مثلما تتطلب مناخاً اجتماعياً مواتياً يؤمن دورة إعادة الإنتاج على مستوى السوق الداخلية، والواقع أن إنشاء الصناعة الكبيرة عملية طويلة الأجل، فكثير من الصناعات تحتاج لفترة تفريغ طويلة.
ومن المعروف أن الثورة الصناعية التى بدأت فى أوروبا منذ أكثر من قرنين، قد استغرقت نحو ثلاثة أرباع القرن قبل أن ترفع بشكل محسوس من متوسط الدخل فى البلدان الصناعية، ولذلك فإنه لا بد من معايير جديدة لتقييم الكفاءة الاقتصادية للصناعة الكبيرة فى البلدان النامية، فلا يمكن الوقوف عند حد المقارنات السطحية بين نفقات الإنتاج المحلى ونفقات استيراد المنتجات المماثلة، وإنما العبرة بتأثير الإنتاج المحلى على تطور الدخل القومى، بحيث يكفل زيادة أكبر فى هذا الدخل القومى، وتعديل موقفه داخل الاقتصاد العالمى.
والخلاصة أنه ينبغى أن تتوصل المجموعة الصناعية التى اقترحت بتكوينها فى المقال السابق على غرار المجموعة الاقتصادية المسئولة عن إدارة الاقتصاد فى مصر إلى تلك الصيغة المناسبة التى تحقق لمصر تناسباً سليماً دافعاً على النمو فيما بين الصناعة الصغيرة أو ما تسمى بالمشروعات الصغيرة القائمة، أو المخطط إقامتها والصناعة الكبيرة الضرورية، ونشير فى هذا الصدد إلى الأهمية الفائقة لتنمية المشروعات الصغيرة التى تقوم بعملية تصنيع جزئى للمنتجات الزراعية أو خامات التعدين المعدة للتصدير، وذلك بهدف زيادة قيمتها، فمن الضرورى استخدامها كفرع ديناميكى، أى كصناعة محركة للنمو، سواء كان ذلك بتصنيع قدر من المواد المعدنية أو بتكريس حصيلتها الخارجية لشراء مستلزمات التصنيع، وفى هذا الصدد فإن تطوير مصر لمواردها المحلية من الوقود والخامات والمعادن، وخاصة تلك المعادن التى تعانى السوق العالمية نقصاً فيها، أمر مطلوب بصفة مطلقة، كل ما هنالك أنه يجب التوصل من بين الصناعات الصغيرة والكبيرة الممكنة إلى تلك الصناعة التى يمكن تسميتها بالصناعة المحركة أو الدينامكية، والتى يكون من شأن البدء بها تحريك سلسلة التنمية فى الاقتصاد القومى، سواء كانت تلك الصناعة استخراجية فى مجالات الطاقة أو التعدين، أو كانت تحويلية خفيفة كالنسيج أو ثقيلة كالبتروكيماويات.
وللحديث بقية.