مع نهاية عام ١٩٤١ كانت بريطانيا فى موقف صعب، هتلر قرَّر أن يُنهي أي مقاومة فى بريطانيا عبر تجويع شعبها، كان يريد تحقيق نصر معنوي قبل غزوها، وأجَّل تلك الخطوة رغم سهولتها لحين استفحال أزمتها الاقتصادية وهزيمة حكومتها أمام مطالب شعبها، وعدم قدرتها على توفير الغذاء مطبِّقًا مقولة نابليون: إن الشعوب تزحف على بطونها، فإذا خلت ﺍﻣﺘﻸﺕ أﻓﻮﺍﻫﻬﺎ ﺑﺎﻟﻤﺮﺍﺭﺓ، ﻭﻗﻠﻮﺑﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﻘﺪ، ﻭأﻳﺪﻳﻬﺎ ﺑﺎﻟﺴﻼﺡ ﺗﻘﺘﻞ ﺑﻌﻀﻬﺎ.
استغلَّ هتلر نقطة ضعف بريطانيا، فهى جزيرة تصلها الإمدادات الغذائية عبر الأطلنطي، وكلَّف الطوربيدات الألمانية بتدمير أي سفينة متجهة لسواحلها، وبحسب الإحصائيات كانت ألمانيا تغرق كل شهر نصف مليون طن من المواد الغذائية الأساسية مثل القمح واللحم والحبوب المشحونة لبريطانيا.. كان الموقف صعبًا للغاية على ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطانى وحكومته، فأمريكا حليفته الكبرى تبدو غير متحمسة للحرب، ودول أوروبا تضيع ملامحها وتختفي تحت أقدام قوات الفيرماخت الألمانية المتقدمة.. وأصبح توفير الأمن والغذاء مهمة شبه مستحيلة، وضاقت حياة البريطانيين لدرجة الموت من الجوع.
أعلنت المنازل البريطانية حالة الطوارئ وخرج مخزونها، فى محاولةٍ للبحث عن حل مع الحكومة، وبدأت فى اختراع أكلات تعتمد على المكونات المتوفرة محليًّا؛ لسد جوع الناس، وظهرت فطيرة انتشرت بشكل خرافي تعطي إحساسًا بطعم اللحم لكنها تخلو منه، أطلق عليها البريطانيون اسم فطيرة وولتن؛ تيمنًا باسم وزير التموين البريطاني لورد وولتن، وهى مكوَّنة من خليط اللفت والجزر و"القرنبيط" ودقيق الشوفان.
وقِصّتها تتلخص فى طلب وولتن من شيف يعمل فى أحد الفنادق وصْفة تستبدل باللحم المستورد الخضراوات المزروعة في بريطانيا، وبعد عدة تجارب وصل الشيف إلى تركيبة الفطيرة، ونجحت الفكرة وتم تعميمها فى بريطانيا كلها.
وبعد انتهاء الحرب قادت فكرة الفطيرة المجتمع البريطانى إلى مراجعة عاداته الغذائية وتقليل اعتماده على اللحوم لصالح الحبوب.
أعتقد أن حكومة المهندس شريف إسماعيل تحتاج لسماع تلك القصة؛ نظرًا لوجودنا فى حالة مُشابهة تحتاج منها لأفكار إبداعية تُواجه غلاء الأسعار المصاحب لتحرير سعر صرف الدولار واختفاء سلع أساسية من الأسواق، مثل التفكير فى توفير وجبات مُشابهة لتلك الفطيرة فى المجمعات الاستهلاكية، واستغلال الوضع بشكل إيجابي نحو تغيير العادات الغذائية للمصريين بشكل يقلِّل اعتمادنا على السلع المستوردة، خاصة اللحوم لصالح المنتجات المحلية.
أعلم تمامًا أنه من الصعب فرض نظام غذائي موحَّد على الناس، لكن ما أقصده وأرمي إليه هو تقديم حلول مبتكرة للأُسَر الفقيرة والمتوسطة ترفع من قدرتها على موجة الغلاء القاسية، وهو دور أصيل للحكومات التى تواجه أزمات قاسية مماثلة لما نواجهه فى مصر.
هذا الاقتراح أيضًا لا يستهدف غض الطرف عن ضعف آليات الحكومة فى مراقبة الأسواق وفشلها فى مواجهة عمليات تخزين السلع واستغلال ذلك الفشل فى رفع سعرها، كما حدث فى السكر، فالجشع يحتاج لتشريع حاسم وإجراءات قاسية وقوية توقِّع أقصى عقوبة على التجار المتلاعبين بالأسعار لتحقيق مكاسب على حساب أمن واستقرار البلاد، فهؤلاء لا يجب السكوت على تصرفاتهم، مهما كانت الأسباب أو المعوقات القانونية والدستورية؛لأنها ممارسات تهدد الأمن القومي للبلاد، وخطرهم لا يقلّ بأي حال عن خطر الإرهاب.
فطيرة وولتن كانت فكرة مبدعة فازت بها بريطانيا على سياسة التجويع النازية ومكّنتها من الصمود وعدم الركوع أمام هتلر، مصر تحتاج لأفكار من نفس النوع لتَعبر من أزمتها وتفشل محاولات تركيعها.