كان حديثه عن عبدالناصر هو موضوعه المفضل.
قريبى الإقطاعى (هو ليس من العائلة وإن كان من أطرافها.. دخل فى العائلة.. تزوج خالتى الصغرى، وكانت قد وافقت على الزواج منه بعد تردد طويل بل وضغوط، وهو يكبرها بكثير بل إنهما يختلفان فى أكثر الطبائع والآراء).. بدأ استرساله يومها بالقول:
- «كان عبدالناصر عقبة.. فى كل شىء.. عقبة فى حياتنا».
كان يشتم جمال عبدالناصر، أكثر حديث يحلو له أن يشتمه ويهاجمه بمناسبة وبدون مناسبة.. وكان بطلى ومثلى الأعلى جمال عبدالناصر قد رحل بغتة، قبل عامين بالتمام. وكنت بعد عام سأبلغ العشرين بالتمام.
نجحت فى تلك الأمسية أن أقتحم أو أقاطع حديثه المتدفق الذى لا يقاطع! وهجومه على ناصر الذى يسعده.. أكثر من أى شىء آخر، فقلت:
- لكن لا يستطيع أن ينكر أحد أن جمال عبدالناصر وطنى رائع وقائد تحرر عالمى وحاكم عادل نادر فى عدله.. وأحبه الناس دائمًا.. لأنه محب لهم، حريص عليهم.. مخلص.
فرد على الفور: (وقد بدا لى أنها معجزة أن تركنى أنطق هاتين الجملتين «على بعض»):
- نعم.. هو مخلص بالطبع.
ثم نطقها هكذا.. على جزءين:
- (مخ).. (لص)!.. نعم كان (مخ).. من يستطيع أن ينكر عليه ذلك!.. وهو (لص).. أيضًا.. طبعاً!.
فاستغربت من الكلام بقدر ما اغتظت.. وقلت لنفسى: لو كان أبى معنا لرد عليه ردودًا تفحمه وتضعه فى حجمه!.. لكن كان أبى فى ذلك الوقت فى «مأمورية» تخص وظيفته وعمله الهندسى.
كنا فى زيارتهم فى «عشة» فى رأس البر. (تسمى «عشة»، كما تسمى كل البنايات فى هذا المصيف العتيد الساحر الآسر الذى اعتدناه منذ طفولتنا لكنها كانت فيلا مفتخرة).
كنا فى مقاعد مدخل «العشة» الواسع (الدور الأرضي).. نشرب عصير التوت (الذى ليس له مثيل عندى ومنذ صغري) من الزجاجات التى صنعتها خالتى بنفسها (تمامًا كما كانت تصنع أمي)، ولم تكن خالتى الشابة تكف طوال الزيارة عن تقديم ما يسعدنا.. وهى ذاتها كانت روحًا جميلة فى المكان وطيفًا رقيقًا راقيًا.
كان المستمعون للرجل، الذى يصب كلامه فى آذانهم، وبعضهم صغار لا يدركون: زوجته.. خالتى، وطفل وصبية تكبره أنجباهما.. وشاب عشرينى أحد أبنائه من زوجته الأولى.. وأمى، أما إخوتى وثلاثتهم يصغروننى فكانوا يلعبون أمام «العشة».. ولم يلبث أن نزل للعب معهم ابنة وابن خالتى.
انطلق ضمن ما انطلق فيه «قريبى الإقطاعى»:
- عبدالناصر كان عقبة فى وجه السلام وأرهقنا بحكاية فلسطين.. وبالفلسطينيين الذين باعوا أرضهم لليهود والآن يقولون رجعوا لنا أرضنا!!.. عبدالناصر أرهقنا بحكاية العرب والوحدة وهذا الكلام الفارغ.. وما نابنا إلا أن أدخلنا فى حرب اليمن وأدخلنا فيما لا يعنينا فى الجزائر وإفريقيا!!.. وورطنا فى حروب فاشلة.. ليس فى حرب ٦٧ فقط وهزيمتها.. بل قبلها حتى فى حرب ٥٦ وهزيمتها، ورغم البروباجندا.. أننا انتصرنا على ثلاث قوى و«عيد النصر»، وكل هذا التهريج!!.. مع أن القناة كانت هترجع لنا.. هترجع لنا!.. لأن الاتفاق كان إنها هترجع وحدها بعد تسعة وتسعين سنة!.. لكنها العنجهية والألاطة.. والرغبة فى الزعامة وقيام إمبراطورية عربية فى المنطقة تحت حكم وزعامة جلالة الإمبراطور عبدالناصر!!..
واستمر الرجل متدفقًا فى حديثه، وإن حاول أن يدعى الرصانة فى تعبيره، فينطق الكلمات بوضوح ويؤكد على الحروف بإصرار، يريد طول الوقت أن يوحى بمصداقية، وبأنه ما ينطق إلا بالحقيقة التى يملك وحده ناصيتها، بل بالبديهيات التى ينبغى على كل مستمع له أن يسلم بها.
استرسل:
- عبدالناصر كان عقبة فى وجه الاستقرار وسلام المجتمع.. كما كان عقبة فى وجه السلام مع الجيران إسرائيل!.. لقد قام ومن أول يوم بالسطو على فدادين أرضنا.. أرضنا وأرض آبائنا وأجدادنا، من غير أى وجه حق.. مخالفًا أولًا شرع الله وسنة نبيه عليه الصلاوات والسلام، فى عدم المساس بأى ملكية خاصة للناس.. لكنه استباح أرضنا ومصانعنا وحقوقنا وحقوق أولادنا من بعدنا.. وباسم قال يعني! العدل الاجتماعى والاشتراكية.. ألا يعرف أن الاشتراكية حرام؟.. وأنها تتعارض مع ديننا الحنيف.. هذا الكفر والعياذ بالله.. ولذلك كانت نكسته فى ٥ يونيو جزاءً وعقابًا عادلًا من الله رب العالمين على هذه الاشتراكية، والتدخل فيما صنع الله وشاء للدنيا والمجتمعات والطبقات أن تستقر عليه.. وباسم «التخطيط» و«الاستقلال الاقتصادى» والميثاق وبيان.. مش عارف.. ٣٠ مارس.. وكل هذا التغيير المتهور المستمر فى ملكوت الله.. وفى حياة الناس أمثالنا، والمجتمع الهادئ المستقر الآمن.. كما كان من قبل انقلابه العسكرى.. أنتم لا تعرفون.. الأجيال الجديدة لا تعرف كم كان يعيش المجتمع المصرى هادئًا هانئًا قبل الانقلاب الذى أطاح بكل شىء بحقد وضغينة.. أنتم لا تعرفون شيئًا عن الاحتياطى العظيم من الذهب الذى كان لمصر قبل انقلاب عبدالناصر الذى نهب كل شىء ونهب ثرواتنا.. وحتى قصور الملك والعائلة الملكية كلها.. وقبل انقلاب عبدالناصر.. هل تتخيلون أن بريطانيا العظمى نفسها كانت مدينة لمصر؟!.. وكان الفلاح راضيًا وصاحب الأرض راضيًا وصاحب المصنع راضيًا والأفندية راضين.. كان مجتمعًا مسالمًا طيبًا لكن انقلاب (ابن البوسطجي) حطم كل شىء.. (الـ«مخ» «لص» الذى يدافع عنه ابنكم!).. بل «وقع» بين الطبقات فأصبح الفلاحون فجأة.. بسببه يكرهوننا.. والعمال وغيرهم من «الألاضيش» يكرهوننا.. ولم يعد أحد له كبير.. أو يعرف مقام الكبير.. ساء الأدب وانعدمت الأخلاق.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. لكن شاء السميع العليم أن يريحنا من كل ذلك.. الآن عبدالناصر هذا أراح واستراح..!!
لم يكن الرجل يتيح لأحد أن يتكلم برأى مخالف، أو حتى بأى رأى!
وكنا جميعًا مختلفين معه.. لكن ما أن يبدأ أحدنا بقول.. حتى يأخذ من بداية هذا القول.. مادة جديدة ينطلق فيها كلامه!
أما أنا فقد كنت مشغولًا بشىء آخر تمامًا.
مشغولًا بخالتى الصغرى الأثيرة.
وكنت أعتبرها طول الوقت، مع خالتى الأخرى الأكبر قليلًا، والدتين أخريين إلى جانب أمى، بكل معنى الكلمة.. فقد قامتا معها بتربيتى وإخوتى، وكنت على مدى عمرى، وحتى كبرت أقول: «أفخر وأفرح جدًا بأن كل الناس لديهم أم واحدة.. وأنا لى ثلاث أمهات».
وكانت أسعد لحظات حياتى، حينما أسعدهن الثلاثة بشىء، وكنت فى منتهى الفرح وأنا حتى الثلاثينات ودخولى الأربعينات من عمرى أسير إلى جانبهن معًا.. جميعنا، أيضًا فى رأس البر، حينما كنا نلتقى فى كل صيف.. (لكن من غير زوجّى الخالتين اللذين كانا قد رحلا، هذا الإقطاعى الذى عرف بحرص قد يصل أحيانًا إلى نوع من البخل، والثانى الكريم جدًا الصانع الماهر الذى يعرف بأنه أول من أدخل أشهر أنواع الحلوى إلى دمياط).
كنت آنذاك أطير من الفرحة، ونحن مساء فى شارع النيل بهذا المصيف الذى يجمع بين البحر والنيل.. أتركهن جالسات، على المقاعد المنتشرة المخصصة لكل المصطافين فى ذلك الوقت، على امتداد الشارع الكبير الساحر، وأروح وأجىء لهن بالأيس كريم.. وأكثر ما يسعدنى ويبهجنى هذه السعادة والرضا على وجوههن الملائكية. لكنى كنت مشغولًا فى تلك الليلة «بعشة قريبى الإقطاعى».. بخالتى الأثيرة.
التى كنت أنظر إليها بحزن أحاول أن أداريه.. وأعتبرها خالتى الأسيرة.