على مدى مقالين متتاليين تناولنا وضعية الأحزاب السياسية فى «الدولة المدنية الحديثة»، باعتبارها إحدى الأدوات الحديثة الناجعة فى مجال التنمية السياسية، ومنوط بها شق سُبل مشروعة لجريان كافة المسارات والتيارات الفكرية السياسية، بما يؤدى إلى تنشيط المشاركة السياسية، لتتسق وحيوية الحياة السياسية فى «الدولة المدنية الحديثة»، معبرة بذلك عن حتمية التعددية السياسية والحزبية داخلها.
وقياسًا على ذلك عرفنا أن أحزابنا ما زالت بعيدة عن المضمون الحقيقى لمفهوم «الحزب السياسى»، بُعدها عن دورها المتعارف عليه فى المجتمعات التى قطعت أشواطًا بعيدة فى الحكم الديمقراطى، باعتبار الأخير ركيزة أساسية فى «الدولة المدنية الحديثة»، إلى جانب العلمانية، والمواطنة، ليخضع المجتمع ككل إلى منظومة متكاملة من القيم العالمية المشتركة التى باتت عنوانًا صحيحًا لتطور المجتمعات ونموها فى الاتجاه الصحيح، باعتبار الإنسان هو المحل الأصيل لكل جهود تنموية حقيقية وشاملة ومستدامة. وفى القلب من هذه القيم: سيادة القانون، والشفافية، وحرية تداول المعلومات، وحرية الرأى والتعبير، والتداول السلمى للسلطة.
والواقع أن مفهومًا آخر ينبغى أن نعترف بحتميته فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، إلا أننا نعانى كثيرًا جراء غياب استراتيجية وطنية حاكمة تضبط أداءه وتحقق أهدافه، وفى الوقت نفسه لا يُعد بابًا واسعًا يمكن أن تُنتهك به قيم الأمن القومى الوطنى، ذلك أنه يمثل الإسهام الشعبى فى الحكم، بل وفى النظام السياسى ككل.
أحدثكم إذن عن مفهوم «المجتمع المدنى»، وأوجز ملاحظاتى فى هذا الشأن فيما يلي:
يعبر المجتمع المدنى عن قدرة المجتمع عن بلورة طموحاته وقيمه وأهدافه المشتركة، فى صياغة وطنية تستند إلى المصلحة الوطنية والعمل على بلوغها بعيدًا عن الدور الحكومى.
بل أنه يُعد الدور الموازن للدور الرسمى فى تسيير حركة المجتمع باتجاه التنمية، ومن ثم فإن تقوية المجتمع المدنى ينبغى أن تظل هدفًا لا يغيب عن الحكومة، إذ هو مساند ومُكمل لها وليس منافسًا تخشاه، أو مارقًا تسعى لكبح جماحه.
عن قناعة حقيقية، ووعى أكيد بأهمية المجتمع المدنى، ينبغى أن تنطلق الدولة لإيجاد فرص حقيقية لنجاح تعاونها مع المجتمع المدنى، بمختلف منظماته غير الحكومية، وغير الهادفة للربح، مع اختلاف توجهاتها، وما تموج به من اعتبارات أخلاقية أو ثقافية، وكذلك مع ما تعتنقه من رؤى سياسية، وما تحتويه من طبقات علمية، وما يشغلها من هموم تتعلق بالشأن الدينى أو الخيرى. ففى كل تلك المجالات ستجد الدولة، متى كانت «مدنية حديثة» بالفعل، الدعم الشعبى لسياساتها وممارساتها على الأرض، وعليها أيضًا أن تُقر بأحقية المجتمع المدنى فى المشاركة فى عملية صناعة القرار، باعتبار ما لديها من أدوات استشعار مجتمعية بها تتعرف على اتجاهات الرأى العام.
ما لم يتمتع المجتمع المدنى، بكافة أوجهه، بالاستقلال الحقيقى عن الحكومة، فإنه لن يؤدى ما هو منوط به من أدوار مجتمعية بالغة التنوع، ومن ثم على الحكومة أن تجد سبيلًا إلى ضبط أداء منظمات المجتمع المدنى، وإخضاعها لسيادة القانون، دون أن تنزع عنها حقوقها فى العمل بحرية داخل المجتمع، وإطلاق ما بها من طاقات لتبدع متحررة من محددات وضغوطات العمل الحكومى الرسمى.
لا ينمو مجتمع مدنى فعال إلا بعد تهيئة المجتمع لقبول أدواره ومسئولياته، ومن ثم فعمليات الطعن والتخوين والتشهير ببعض الفاسدين الذين اتخذوا من منظمات المجتمع المدنى سبيلًا للتربح غير المشروع، لا ينبغى أن تنسحب على رؤية الدولة ككل للمجتمع المدنى بأسره، فنحطم ما به من قيم مجتمعية كالتطوع والمشاركة والتعاون، إذ هى أمور تدفع بالقطع عجلة الإنتاج فى المجتمع.
دون مجتمع مدنى قوى، لا يمكن أن تنهض الدولة بكافة المسئوليات المنوطة بها فى كل المجالات الخدمية، الصحة والتعليم والنقل والرعاية الاجتماعية وغيرها. يحدث ذلك فى كافة المجتمعات، الغنية والمحدودة الإمكانات، بل إن قوة المجتمع المدنى واتساع دوره المجتمعى وفعاليته، ترتبط كثيرًا، وبشكل طردى، مع قوة الدولة. ولنا هنا أن نشير إلى قوة المجتمع المدنى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا وغيرهما من المجتمعات التى رسخت بالفعل مفهوم «الدولة المدنية الحديثة».
وإن كان المجتمع المدنى يخرج بالتأكيد عن المجتمع السياسى، إلا أنه شديد الصلة بكل ما من شأنه تهيئة المجتمع، بكافة مكوناته الشعبية المتباينة الاتجاهات، للانخراط بفعالية فى الحياة السياسية، فلا دور يمكن أن ننتظره من مجتمع لم يجد بعد سبيلًا إلى التعبير عن استعداده للتعاون والتطوع لتقديم خدمات عامة تعتنى بالمصالح الوطنية عمومًا.
منظمات المجتمع المدنى، رغم أنها غير سياسية، إلا أنها بالقطع تستهدف التأثير على السياسات العامة التى تتبعها الدولة، سواء فى الصحة أو التعليم أو الرعاية الاجتماعية أو فى السياسات الاقتصادية، تجارية كانت أو صناعية أو زراعية، أو حتى فى مجال الخدمات. وذلك من خلال الحركة النشطة والواعية التى تنهض بها النقابات والتجمعات التى تستهدف بشكل أصيل تطوير المهنة، وحماية مصالح أبنائها. وبالتالى نجد أن كثيرًا من القوانين فى «الدول المدنية الحديثة» تُطرح أولًا فى حوار مجتمعى مفتوح يستهدف بالأساس الوقوف على اتجاهات أبناء المهنة أو الطبقة التى يستهدفها القانون، وتؤخذ تلك الاتجاهات والتفضيلات فى الحسبان عن وضع القانون، بل ويتجه البرلمانيون إلى استطلاع رأى المعنيين بالأمر فى دوائرهم، سواء بشكل فردى أو من خلال منظمات المجتمع المدنى المعبرة عنهم، قبل مناقشة القانون المتعلق بهم داخل قاعات البرلمان. ولا شك أن مصر تخطو خطوات جادة فى هذا المجال، وإن كانت غير كافية، وما زالت بحاجة إلى مزيد من الشفافية والجدية.
يُعلى من مدى إسهام المجتمع المدنى فى تنشيط الحياة السياسية أن نُشير إلى أن الكثير من الأحزاب فى العالم نشأت من رحم المجتمع المدنى، ومن أهمها حزب العمال البريطانى على سبيل المثال، إذ نشأ من النقابات العمالية، والأكثر من ذلك أنه وجد ضالته المذهبية فى جمعية فكرية، «الجمعية الفابية»، التى أنشئت عام ١٨٨٤ لتنشر المبادئ الاشتراكية بالوسائل السلمية، وكان «جورج برنارد شو» من أشهر روادها الفكريين. ومن ثم فدور المجتمع المدنى بالغ الأهمية فى تنشيط حركة المجتمع باتجاه بناء حياة سياسية متطورة، تحمل كافة التيارات الفكرية، وإن كان المجتمع المدنى فى حد ذاته لا يُعد أحد مكونات المجتمع السياسى كما أسلفنا.
التوازن الذى يُحدثه المجتمع المدنى فى مقابل سلطة الدولة هو معيار أصيل فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، وبدونه تبدو الشمولية السياسية شديدة الوطأة على خطواتنا على طريق التحول الديمقراطى، بما لا يجعل المجتمع ككل مرشح بجدية للنجاح فى جهوده نحو إرساء قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة». غير أنه طبيعيًا أن تعانى الدول الناشئة ديمقراطيًا جراء افتقادها أدوات وآليات ضبط حركة المجتمع صوب مصالحه الوطنية العليا، إذ ما زالت أركان «الدولة المدنية الحديثة» لم تكتمل بعد، ومن ثم تبدو جبهة المجتمع المدنى سهلة الاختراق فى إطار عملية الصراع الدولى المستمر. وعليه تقع على الدولة مسئولية إحكام قبضة سيادة القانون على منظمات المجتمع المدنى، دون أن تصطدم بالقيم والمعايير العالمية. فليس غريبًا أن ينهض المجتمع المدنى على التبرعات والهبات، فى الداخل والخارج على السواء، لكن «الدولة المدنية الحديثة» متى رسخت أوتادها، تمكنت الدولة من سد الكثير من الثغرات أمام فساد منظمات المجتمع المدنى، ومجابهة محاولات اختراقها، من الخارج والداخل على السواء، لتحقيق مصالح تتنافى وجوهر مفهوم المجتمع المدنى، وهو ما لم نبلغه بعد، ولنا فيه حديث يمتد إلى الأسبوع المقبل بإذن الله.