الخميس 27 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

سكة عبدالراضي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
زمان كنت باسمع إن العرب كانوا بيحتفلوا لما يطلع بينهم شاعر جديد.. الزغاريد من هنا.. والمزامير من هناك.. وسمعت برضه إنهم كانوا «بيجزلوله العطايا».. يعنى من الآخر كده اللى كان يتولد له شاعر.. «زعقله نبي»..
من فترة طويلة.. بطلت أسمع.. لدرجة إنى مش فاكر قريت الحكايات دى فين.. ولم يعد العرب من المحيط للخليج يهتمون بأن يكون من بينهم شعراء.. ولم يعد للكتابة سطوة السحر الذى كان.. تخيل يا عمنا إننا فى الأيام الأولى فى الصعيد.. كان بيتهيألى إن الكلام العادى اللى بيقولوه أهالينا شعر.. يعنى لما تكون قاعد فى دوار ولا فى وسط ناس شغالين فى الغيط كنت تسمع حكايات.. ووسط الحكاية تلاقى اللى بيتكلم نط فجأة وقالك: «الشاهد فى الكلام».. وبعدها مباشرة يستعين ببيت شعر أو مثل شعبى قراري.. يخبطك فى قلبك فتحس حلاوة الدنيا كلها فى الكلمتين المختصرين اللى صاحبنا رماهم من حلقه مع السلام ومشي.
الآن.. لا أحد بيهتم.. لا بالشعر.. ولا بالكلام.. ما عادلوش لازمة.. الناس من تقل الأزمة.. مش حاسة خبط الجزمة على الطرقات.
ومن الطبيعى أن يصبح أمر القبض على «بيت شعر» يرشق معاك أمرا ليس بالهين.. فإذا كان حال الشعر كذلك.. فحال الكتابة المنثورة أمر وأدل.. وسط هذا كله يفاجئنى شاب صعيدى من بلدياتي.. مش من جيلي.. ولم يسعدنى الحظ بالعمل معه.. لكننى أتابع ما يكتبه فى الزميلة «الوطن».. ومن قبلها فى أماكن أخرى ومؤخرا فوجئت بصفحته على «الفيس».. يدون فيها يومياته.
هذا الشاب بالتحديد هو واحد من قلة قليلة تملك ذلك السحر الذى كنت أتحدث عنه اسمه «سامى عبدالراضي»، وهو من جيل اختطفته جنّية العمل فى «الفضائيات» فراح ينسج مع زملاء له برنامجا مهما مع «معتز الدمرداش» حظى ولايزال بمتابعة الملايين لكن الأهم من وجهة نظرى أنه لم يفقد «سامي» مهارته وقدرته الفذة على كتابة منمنماته النثرية.
يكتب «ابن عبدالراضي» بسهولة ويسر شديدين.. جملته بسيطة وإيقاعه أبسط.. كنت أتخيل فى البداية أنه يكتب بمكر شديد.. ثم اكتشفت أنه ابن «الكتابة الطيبة».. لا تلمح للآخرين ظلاً فى حروفه.. ولا فى سخريته اللاذعة الموجعة.
هذه الكتابة الرائعة لم يزعم صاحبها أنها أدب مدونات.. ولا أنها كتابة.. اعتبرها «خواطره الشخصية» فاكتفى بأصدقائه على مواقع التواصل.. أدبًا وتأدبًا.. وهو لا يعرف أننا لو كنا فى زمن يحترم الكتابة.. مثل ذلك الزمن الذى كان يحتفى فيه العرب بمولد شعرائهم.. لكنا أقمنا له «السامر» ثلاثين ليلة ورا بعض.. لكن نعمل إيه إذا كان السامر كله انفض!.
كتب سامى من يومين.. يتذكر تفاصيل قريته الصغيرة فى سوهاج.. أيام الحلم.. عن نخلاته وشجرته التى كان يتسلقها فى مواجهة «صرخة القطار» .. القطر اللى رايح مصر.. وواخد معاه الناس اللى حبيناهم.. كتب عن دار عمته التى تعيش فى القاهرة وتعود لأهلها فترات الأجازة وكيف كان يبكى وحيدًا بعد رحيلهم.. وهو لا يعرف أنه سيكون واحدًا من هؤلاء الذين ستترتبط مصائرهم بالنداهة «القاهرة» حتى لا يستطيع أن يهجرها ولو لساعات «يشوف فيها الوالدة».. ويشبع من ريحة «خبيزها».
فتح سامى باب مندرة المواجع.. وجاب عاليها واطيها دون أن يقصد.. فكشف عن ندوب فى شرايين جيل كامل كان ولا يزال يقاسى من «وجع البعاد».. هؤلاء الذين تركوا قراهم.. أيامهم الأولي.. سيرة أجدادهم.. أنين مصاطبهم.. وألعابهم المصنوعة من طين «الفحل».. لسعة نار أفرانهم البلدية فى صباحات الشتاء.. أفراحهم البسيطة فى ليالى الأعياد.. هؤلاء - وأنا أحدهم - تعاودهم أحلام العودة إلى ديارهم الأولي.. يومًا وراء يوم كلما سرق العمر منهم «حتة».. وشرخ إلى مجهول.
فضح ابن عبدالراضى «أوهامنا».. التى خلعنا هدومنا وعُمنا فى البحر من أجلها.. لنكتشف فى النهاية أن «طلة من عيون أمهاتنا بالدنيا وما عليها».. وأن «سكة اللى يروح» اللى مشينا فيها ومش عارفين هتاخدنا لفين.. لم تترك على ملامحنا سوى «حزن الأرامل».
فرحى بهذه «الكتوبة» غلب حزنى على أيامى الأول وأنا داخل على الخمسين «وش».. لكنه ينبهنى أيضا إلى أن القطر اللى ركبته ومعى آخرون.. لم يسمح لنا أبدا طيلة تلك الأعوام.. أن نسأل مجرد السؤال.. إحنا نازلين فين.. وعشان مش عارفين هننزل فين!! مضطرين نكمل لآخر الخط.