ربما لا أتذكر عدد ملايين تعثرى، ووقوعى، وذعرى، وارتعاشاتى، وعجزى أمام حصن المستحيل العَتيد، لكننى بكل الطرق، والأسلحة، والأدوات، نبشت فى الأرض، تَشَبَّثت، قُمت، أكْمَلت.
ربما لا أتذكر عدد ملايين مقاومتى ذلك الشبح المرعب، المفزع، الذى يسكن أنسجتى، لأتعلم أن أصعب المعارك فى الحياة هى أن تقاتل خصمًا، وحشًا، شرسًا، لا تعرفه، ولا تراه، ولا تسمعه.
كنت ومازلت أشعر دومًا بوجود «إرادة عليا» تفعل بنا كل هذا متعمدةً، وفْق تخطيط مُسْتَحْكم، لهدف مُقدَّر، فلا أؤمِن بالعشوائية، بل بالتدبير المُتْقَن.
سيدى.. ربما عرفت، وقرأت، واجتزت الأكثر، لكننى أختزن تاريخًا أقسى، وأعنف أكثر، وربما خضت معارك مهلكةً، مفجعةً أكثر.
دعنى أهذبك بنعومة بالغة، تستحقها، مهما كانت سقطاتك، خطاياك، الفادحة، ثم أعلمك أنه لم يكن سهلاً أبدًا استرداد سلطات ذاتى، وذاتك، إرادتى، وإرادتك، رغبتى، ورغبتك فى كل الأشياء الجميلة، وجدوى هذا الوجود بأكمله.
دعنى أمنحك بعض الأمل، أحفر فيك معنى أعذب، وأجمل، وأروع، ربما لا تعرفه، مثل لحظة بليغة، عشتها، لن تتكرر، كنت فيها أنت؛ نقيًا، ناصعًا، مبتهجًا، بلا أقنعة كاذبةً، زائفةً، بائسةً.
سيدى.. كلانا ضوء فى الفجر يُعلن ثورته على العَتَم، كلانا حُر فى الكون يُعلن ثورته على الأَسِرْ، كلانا شمس، ونجوم، وقمر، كلانا سكر، وبسبوسة، وعسل.
نعم.. صدَّقت أحلامى، وخيالاتى، وحينما أصل إلى المستقر، أستغرق التفكير فى التالى؛ حتى ألْمَح المَرْفأ، وهو دومًا أبهى من كل أمنياتى.
سأروى لك فيلمًا أحبه «الخروج من الجنة»، المأخوذ عن مسرحية «توفيق الحكيم»، التى نشرت عام ١٩٥٢، وهو من أبدع ما قدَّمت «هند رستم»، وغنَّى «فريد الأطرش»، ولحَّن «أندريا رايدر»، وأخْرج «محمود ذو الفقار»، رغم اختلافى الجذرى مع عنوانه، ونهايته.
إن الأعمال الأدبية الرفيعة هى قلعة الذاكرة، وجواهر المعرفة الصامتة، التى يتجدد إحياؤها فى أعمال سينمائية مدهشة، لتصل رسالتها فى خفة وبساطة إلى قلوب وعقول كل الناس، على اختلاف ألوانهم، وطبقاتهم، وثقافتهم، فهى بمثابة «الروح» التى تتجلى فى جسد العمل «المقروء»، فتبعث فيه «الحياة».
يقول «الحكيم» فى روايته إن الألم العظيم هو وحده القادر على خلق إنسان عظيم، وكلما ازدادت حدة الألم، وقسوته، ازداد قدر امتيازه، وعظمته.
أحبت الصحفية «عنان» الوجيه الثرى «مختار»، أدركت أن عبقريته تسكن صوته، وألحانه، فهى تبْصر بمجهرها الثاقب الأشياء الثمينة، لكنه لم يكن يدرك قيمة موهبته، فحاولت بشتى الوسائل بعد زواجهما أن تجعله يلمس كنزه، تحرر موهبته السجينة، تحرضه على خوض تجربته الفريدة، إلا أنه لم يعبأ، واكتفى بها، فهى جُلَّى آماله، وبحياة عابثة، مترفة.
كانت شاعرة، وأديبة، ومفكرة، تدرك أن تحقيق رسالة الله فى خلقه هى الطريق الوحيد، مهما بلغت حدة العقبات، والأزمات، والانهزامات، فتوقد ذهنها عن فكرة غير معتادة، على قدر قسوتها، إلا أنها الملاذ الوحيد، وعلى إثرها اختلقت الخلافات معه، وقلبها يتمزق، حرمته منها، وحرمت نفسها منه، تصورت أنها رغبة القدر وإرادته.
قررت أن تصفعه بأقسى وأشد درجات الألم؛ ليفيق من غيبوبته، فأصرت على الطلاق دون إبداء أسباب، فحثَّها كثيرًا على التراجع، حاول أن يفهم، لكنه لم يفلح أبدًا.
تزوجت من رجل سبق أن تقدم لها، ورفضته، حتى يفقد «مختار» الأمل تمامًا فى عودتها، فتحول جُرْحه إلى سكين حاد، ذبح قلبه، وروحه، ووجوده.
اكتأب «مختار»، وتدهورت صحته، وساءت أحواله، فلم يجد أمامه سوى «عوده»، يرتمى فى أحضانه، تختلط دموعه بأوتاره، لتعزف أنامله نزيف أحزانه، فتجلى صوته طربًا مع أعذب الألحان.
ووقف على المسرح، وواجه الجمهور، رغم ضعفه، وألمه، بصوته الشجى، وانطلقت نبراته من شغاف القلب، فاخترقت كل فضاءات البشر، فأصبح من أصدق وأشهر مطربى عصره.
تسعد «عنان»، وتشعر بالفخر، والانتصار، وتظل تراقبه من بعيد، تطمئن عليه بين خِلسة وأخرى، دون أن ينتبه لوجودها، فهى تحبه، وتؤمن به، وتملك الإرادة الكافية لإجباره على النجاح، لتتجاوز بذلك كل حدود البشر، وترتفع إلى مرتبة الملائكة، المتجردة تمامًا من كل نوازع الغرور، والأنانية، والطمع.
تغضب «كاتبة السطور»، ويصرخ داخلها بشدة، وتنازع بحدة هذه الفكرة، وتخاصم للأبد القصة، وتضع «بداية» مختلفة، مشرقة، عادلة، بدلاً من «نهاية» عجيبة، معتمة، ظالمة.
تختار الدخول إلى «الجنة»، لا الخروج منها؛ فالحل فى يقينها يتجدد فى المواجهة، الاقتراب، الالتصاق، لا التراجع، الابتعاد، الفرار، مهما كانت الإحباطات، الإخفاقات، الانكسارات.
تجعل «عنان» ترقص، وتضحك، وتفرح، وتضع فى عقل «مختار» الرجولى، المقاوم، المكابر، العنيد، وروحه الصافية، وقلبه البرىء، وجسده الرقيق «قطعة السكر»، التى تحبها، وتحبه، وتصر أن يسمعها تغريده، وتحمسه، وتعلمه، ليتقنا معًا فن «اللعبة»؛ الحب، الجنون، الحياة.
يحتار «مختار»، يتكاسل، يمارس شقاوة الأطفال، لكنها تواصل المشوار، تسابق الإصرار، فهى تشتاق له دومًا من قبل مولدها، وهو يفيض لها حبًا ولهفةً وغرامًا.
وفى مشهد الختام.. تجلس «عنان» أمام «مختار» فى قاعة المسرح الفخيم، ترسل له «قبلة» دافئة، فيبتسم لها، ثم يغرد، ويعزف أحلى «الألحان»، وينتزع «السم»، ويحطم «الأغلال»، ويزيل «الغبار».