ونكمل اليوم ما بدأناه الأسبوع الماضى عن العلمانية: حفر الدين حفرًا معرفيًا فى أذهان البشر.. يربى بدوره (ذهنية) هى الأصل فى التطرف.. وعلى سبيل المثال لا الحصر، انتشرت فى فترة سابقة فى شوارع الجمهورية على اتساعها ملصقات تسأل المارة سؤال يقول (هل صليت على رسول الله اليوم؟). وقد يندهش القارئ من انزعاجى وقلقى من ذلك وبالتالى طرحى للأمر بوصفه مشكلة.. علمًا بأننى أرى فيه كارثة أكيدة، فالسؤال فى ذاته يربى لدى المتلقى والمارة تلك (الذهنية) والتى بمرور الوقت تتحول لصورة راسخة تطبع فى الأذهان وتصبح نمطًا للتفكير وتربية للوعى تتطور بدورها إلى حالة من الجمود الفكرى والعقلى تؤدى حتمًا للتطرف فى السلوك عندما تحين الفرصة أو يسمح الظرف.
فمن مارس العنف أقصد من تسنى له ذلك واستطاع إليه سبيلاً لم يولد عنيفًا.. إنها العوامل التى خضع لها وأثرت فيه بشكل تراكمى طيلة حياته،
إنها المعطيات والبدايات والمقدمات التى أدت لتلك النتيجة النهائية.
ومن لم يمارس العنف (بعد) لكن تربى عليه.. دون أن يعى أو يعتبر ما تربى عليه عنفًا.. هو مشروع عنف مؤجل حتى يحين وقته، فمن سار فى ركب إرهابى فى مسيرة يظنها سلمية وهى ترفع شعارات عنصرية أو طائفية أو يعتصم فى مكان مع آخرين ليسوا على شاكلته تمامًا فى تلك اللحظة لا يبعد ذلك عن نفسه شبح وعدوى التطرف، ولا يسلم فى هذه الحالة أيضًا من المساءلة القانونية فى دولة القانون.. للقرب ولتلك المتلازمة مخاطر قد لا يلمسها صاحب التجربة فى حينها، ولا نحترس نحن لها أيضًا أحيانًا ولا نحسب لها حسابًا.
من مارس الإرهاب ليس وحده الإرهابى، الإرهاب يبدأ فكرًا وتربية وذهنية وينتهى سلوكًا.. ومن يربّ الفكر اليوم يربّ بدوره (الذهنية) وهى بذرة العنف والإرهاب فى المستقبل.
وللتذكير فقط.. شعار الإخوان المسلمين من عشرات السنين كان (الإسلام هو الحل) جملة عادية رشيقة وبسيطة وجذابة ولا ضير منها أو فيها.. وبمرور الوقت تحولت العبارة لقنابل وأحزمة ناسفة وسيارات مفخخة يقودها انتحاريون!!.
وإن أراد من أراد تبرئة هؤلاء من أفعال العنف التى مارستها جماعات أخرى كأنصار بيت المقدس وغيرها من الجماعات.. فهذا فصل فى ظاهره حقيقى.. فهؤلاء ليسوا كهؤلاء، ولكن ما علمكم وما الضامن أن هؤلاء لن يصبحوا كهؤلاء؟!.
من لم يستخدم السلاح اليوم أو حتى الآن، لا يعنى ذلك بالضرورة أنه لن يستخدمه لاحقًا.. كما لا يعنى أيضًا بالضرورة أنه سيستخدمه.
المشكلة الأساسية تكمن فى الفكر (الذهنية).. فأن نحترس ونحتاط ونقتلع رأس التطرف (مجازًا) هذا لا يعنى أننا نحاسب على النوايا أو باعتبار ما سيكون وقد لا يكون.. بل يعنى أن نراعى المقدمات وندحضها فهى حتمًا ستؤدى لنتائج.
الدين بمعناه العام أفق معرفى يواجه الآن العلمانية.. ويواجه أيضًا الإسلام السياسى، وهذا اختبار وجودى هام يتلخص فى كلمتين (إما أو)
إما التجديد أو الموت.. إما العلمانية أو الإسلام السياسى.. والواقع يقول لا خيارات أخرى!!.
أعرف أن الوضع المتحفز يطرح أسئلة متشابكة تستوجب وتستدعى قراءة متأنية.. لكن الزمن متعجل، والثورة جُعلت فى الأساس لإحداث تغيير جذرى فى الرؤى والأفكار وأنماط الحكم أيضًا، ولفرض القانون وسيادته وبالقوة، ولا تعنى فقط استبدال حاكم بآخر عن طريق الخلع أو العزل (أى بالقوة أيضًا).
تغيير (الذهنية) الآن مطلب شعبى واجتماعى عام لا نخبوى.
ضرورة حتمتها الأوضاع المتفجرة، والدين كان وما زال وسيظل حقا للفرد لا ينازع فيه.. والدولة أيضًا حق للجميع رغم أنف الجميع، ولن نصبح دولة مدنية بالمفهوم العامودى للكلمة التى جاءت على لسان الرئيس الجديد إلا بتطبيق العلمانية كضرورة آنية ملحة ومطلب جمعى شعبوى،
اليقظة الآن.. الحسم الآن.. العلمانية الآن.