يصل بعض الاقتصاديين إلى أن التحدى الرئيسى للتنمية الاقتصادية هو التحول العميق للاقتصاد المتخلف نتيجة التوسع الكبير فى الناتج الصناعى، ولهذا فإنه بدلاً من اصطناع التناقض بين الصناعة والزراعة، بين فريق يركز على الزراعة بوصفها أسرع طريق إلى التصنيع وفريق يركز على الصناعة بوصفها أسرع طريق لتنمية الزراعة، ينبغى التصدى للإجابة عن مشاكل أكثر جدية فى مقدمتها جميعاً مشكلة توجيه المحاصيل للغذاء أم للتصدير، ومشكلة اعتماد التصنيع على خامات محلية أم مستوردة، ومشكلة التنسيق بين الزراعة والتصنيع.
فيما يتعلق بالمشكلة الأولى وهى الإنتاج للغذاء أم للتصدير، فما زالت الزراعة تحافظ على ما ورثته من وضع مميز لمحاصيل التصدير بمقارنتها بالمحاصيل المعدة للغذاء، وقد تفضى سياسة بعض البلدان إلى تضييق الهوة بين القطاعين تكريساً لتخصيص المحاصيل للتصدير، وهنا لا بد من التأكيد أولاً على صورة التوصل إلى الاكتفاء الذاتى فى الغذاء باعتبار أن هناك مشكلة غذاء خطيرة فى أغلب البلدان النامية التى تعرضت لأخطار المجاعة داخلياً وبالتبعية خارجياً، كما أن زيادة حجم الصادرات الزراعية أمر جوهرى لدفع ثمن الواردات فى السلعة الإنتاجية والوسيطة والاستهلاكية التى تتطلبها عملية التصنيع.
ولقد تعرضت كوبا فى الستينيات فى القرن الماضى لهذه المشكلة، وجرت لها عندئذ تجربة بالغة الدلالة، فلقد حاولت الحكومة أن تقلل من أهمية محصول التصدير الرئيسى وهو قصب السكر، وأن تنتج بدلاً منه ما تحتاجه من غذاء، فكانت النتيجة أنه تم تخريب آلاف الهكتارات من مزارع قصب السكر الفائقة الجودة، بينما لم تستطع الصناعة ولا إنتاج الغذاء أن يحلا محل قصب السكر من حيث أهميته فى الاقتصاد الكوبى، ومن ثم عادوا بعد سنوات إلى وضع أكثر واقعية، فابتداء من وضع كوبا على خريطة العمل الدولى، وهو الوضع الذى يميزها بمنتجاتها من قصب السكر فى العالم، سعوا لتصدير السكر بكميات أكبر فى سبيل استيراد السلع الإنتاجية والمواد الخام كالبترول والقطن لأغراض التصنيع، وثابروا على زيادة إنتاجهم من البرتقال والبن والتبغ والموز لأغراض الاستهلاك المحلى والتصدير.
أما المشكلة الثانية فهى تتعلق باعتماد الصناعة على الخامات الزراعية المحلية أم المستوردة، وأغلب البلدان النامية تبدأ من واقع تخصصها فى إنتاج خامات تصدر للتصنيع فى الخارج ما يعنى أن لديها منتجات أولية صالحة للتصنيع، ولهذا فإن أول ما يطرح عليها هو أن تبدأ التصنيع بتنمية الصناعات المعتمدة على المنتجات الأولية، ومع ذلك جرت تجارب أخرى جرى فيها التصنيع على أساس خامات مستوردة، فقد اعتمدت كولومبيا على ثلاث صناعات رئيسية فيها، على الأقل فى البداية، على استيراد القطن والشعير والمطاط، وفى الوقت ذاته، استطاع الاقتصاد الكولومبى أن يعالج حاجاته إلى هذه الخامات، ويكتفى اكتفاء ذاتياً فى القطن والشعير، وبدأ زراعة المطاط، ويطلق على هذه الظاهرة اسم «التنمية المقلوبة» بمعنى الانتقال من المنتجات الثانوية إلى الأولية، والواقع أنه يجب الحرص دائماً على إدخال محاصيل جديدة ذات استخدام صناعى، يمكن أن تلعب عندئذ وظيفتين، أما الأولى فهى موازنة الهبوط فى الطلب العالمى على الخامات التقليدية، وأما الثانية فهى تزويد الصناعة المحلية بحد أدنى من قاعدتها الأساسية فى الخامات الزراعية
أما المشكلة الثالثة، فهى تنسيق الاعتماد المتبادل بين الزراعة والصناعة، وهنا نبدأ مما قلنا عن وهمية التناقض بين الزراعة والصناعة، ومن ثم فإن العون متبادل بينهما، إن الزراعة تقدم السوق للصناعة، فى صورة تراكم رأسمالى ومواد غذائية وخامات وعمل وسوق داخلية للمنتجات المصنوعة، غير أن الصناعة بدورها مسئولة عندئذ عن تزويد الزراعة بقاعدتها من الأسمدة والمعدات والآلات وسوق العمالة الفائضة وسوق المواد الغذائية والخامات، ومن ثم يتم توسيع قاعدة الدخول النقدية فى الريف كما يتم توسيع السوق الداخلية القومية بتحويل منتجات الزراعة إلى سلع توجه إلى السوق، فارتباط الصناعة بالسوق الداخلية أساساً هو أول ما يضمن لها النجاح، إن التصنيع إنما يبدأ بتطوير الزراعة لتصبح صناعة، تساعد بدورها على خلق السوق الداخلية، وإلا تخلفت الزراعة عن الطلب المتزايد على منتجاتها، وبرز اختلال هيكلى جديد نتيجة تفاقم مسألة الغذاء وعجز المواد الخام، فضلاً عن بطء نمو الطلب على المنتجات الصناعية.
أما الجانب الآخر فى عملية التصنيع، فهو الصناعة على نحو يكفل انفصال الصناعة نهائيا عن الحرف واستخراج الخامات والتطوير الشامل للصناعة اليدوية، بحيث تصبح الفروع الأساسية للاقتصاد القومى كلها صناعات آلية كبيرة، ونظراً لأن التصنيع هو جوهر التنمية، فإن استراتيجية هذه التنمية ينبغى أن ترمى لتحقيق هدفين متكاملين فى مجال التصنيع، أما الأول فهو تعزيز موقع الصناعة فى الاقتصاد القومى وخاصة مواجهة الزراعة، وأما الثانى فهو تغيير الهيكل الداخلى للصناعة وخاصة فى مواجهة الصناعة الاستراتيجية والصناعة التحويلية الاستهلاكية، فمهمة التصنيع هنا تحريك العملية الشاملة للتنمية، أى تصحيح الهيكل المشوه للاقتصاد القومى والتوصل إلى هيكل آخر أكثر كفاءة بحيث يضمن مشاركة أكبر للقطاعات المنتجة للآلات فى مواجهة القطاعات المنتجة للمنتجات الزراعية والخامات المعدنية، ومن ثم زيادة نصيب الصناعة الثقيلة من إجمالى الناتج القومى على حساب النقص المتزايد فى نصيب القطاع الزراعى والاستخراجى، وبإقامة هياكل صناعية أكثر تكاملاً على هذا النحو تشمل كلاً من الصناعة الخفيفة والصناعة الثقيلة، يمكن أن ينتقل مركز الثقل فى تطوير الصناعة الثقيلة، وخاصة فى البلدان ذات الأسواق الداخلية الواسعة فى صناعة السلع الاستهلاكية إلى صناعة أدوات الإنتاج، ويتم هذا الانتقال بالتدريج، وذلك من خلال البناء التدريجى لصناعة إنتاج وسائل الإنتاج -فى البداية بإنتاج مواد العمل- ثم بعد ذلك بإنتاج أدوات العمل، وبخاصة الآلات والسلع الوسيطة، وتصطدم الدول النامية ها هنا بالتناقض الكامن فى عملية تطوير الصناعة بقطاعيها، قطاع إنتاج الاستهلاك وقطاع إنتاج وسائل الإنتاج، هذا التناقض الذى يتمثل فى سهولة تنمية سلع الاستهلاك وصعوبة تنمية إنتاج الآلات والمعدات، ومع ذلك فإن تنمية صناعات سلع الاستهلاك، وإن لم تكن تأتى بتغييرات جوهرية فى هيكل الاقتصاد القومى، مهمة ضرورية لأنها تكفل قاعدة اقتصادية للتغيرات التى تحدث مستقبلاً فى شكل الطلب على وسائل الإنتاج.
وفى جميع الأحوال، فإن المهمة الأولى لعملية التصنيع هى إنتاج تلك المنتجات التى تحتاج إليها الزراعة، ومن ثم تمثل الصناعات الكيماوية لإنتاج الأسمدة والمبيدات والصناعات الميكانيكية لإنتاج الأدوات اللازمة لإعداد الأرض للزراعة وحتى الصناعات الخاصة بإنتاج مواد البناء أهمية أولى بين الصناعات.
وبهذا العرض نفتح قضية أساليب التصنيع، وتاريخياً، تحقق التصنيع فى البلدان المتقدمة بأسلوب من أسلوبين، كان الأول أسلوب الرأسمالية فى التنمية التلقائية، وهو أسلوب التصنيع الخفيف، أى البدء بالصناعات الخفيفة وخاصة صناعة النسيج ثم الانتقال بطبيعة الأمور إلى الصناعات الوسيطة فالصناعات الثقيلة، والأسلوب الثانى هو الأسلوب الاشتراكى للتنمية المخططة، وهو أسلوب التصنيع الثقيل، أى البدء بالصناعات الثقيلة للانتقال إلى الصناعات الوسيطة والصناعات الخفيفة. وحتى فى إطار الأسلوب الأول، فقد تعددت المداخل بحسب الأوضاع الخاصة بكل بلد رأسمالى، وتوقيت قيامه بالتصنيع.
هناك النمط البريطانى المبكر، الذى بدأ بالتركيز على إنتاج المواد الأولية، والاعتماد على تصدير منتجات الصناعات الخفيفة وخاصة المنسوجات والانتقال بعدها إلى الصناعات الثقيلة.
وهناك نمط النمو الأمريكى، حيث كان الوزن النسبى للصناعات الخفيفة محدوداً.
وهناك النمط الألمانى الذى جاء متأخرا وقد قام بالتوسع فى صادرات الصناعات الثقيلة على حساب المواد الأولية والصناعات الخفيفة.
وقد تعددت أساليب التصنيع، فقد كانت صناعة النسيج فى القرن التاسع عشر هى هذه الصناعة المحركة، بينما صارت فى بداية القرن العشرين هى الكيماويات والصناعات الميكانيكية، ثم جاءت صناعات الإلكترونيات والصناعات النووية، وبحكم مفهومها، فإن هذه الصناعات المحركة ذات أثر عميق فى الاقتصاد القومى.
فى هذا الضوء ينبغى أن نعالج قضايا التصنيع فى البلدان النامية، ونعتقد أن هذه القضايا أربع: «صناعة كبيرة أم صغيرة، وصناعة لإحلال الواردات أم صناعة للتصدير، وصناعة ثقيلة أم صناعة خفيفة، وصناعة كثيفة العمالة أم صناعة كثيفة رأس المال».
وتواجه مصر تحديات كبيرة فى عملية التنمية والتصنيع، وهى أكبر من إمكانية أى مسئول عن الصناعة فى مصر مهما عظم شأنه.
ولذلك فإننى أقترح إنشاء المجموعة الصناعية من خيرة رجال الصناعة وخبرائها وعلمائها وينضم إليها خبراء فى المال والاقتصاد مهتدين بالمجموعة الاقتصادية.