لكن فرح المفكر والمناضل والاشتراكى لم يزل بحاجة إلى حديث طويل وخاصة حول مقالاته فى «الجامعة»، والتى شهدت كما قلنا توهجه الفكرى والفلسفي. فلنواصل معه على صفحات الجامعة ونبدأ بمقال نادر نشر فى «الجامعة» (السنة الأولى الجزء العشرون ١-١-١٩٠٠) والمقال عنوانه «القرن العشرون وماذا عمل القرن التاسع عشر ص ٤٥».
ونقرأ «يصدر هذا الجزء فى أول يوم من أيام القرن العشرين فوداعا أيها القرن الراحل وسلاما أيها القرن القادم. ولنر هذا القرن الراحل على لهيب الثورة الفرنسية ومدافع نابليون يدوى صداها، ولقد كان من تأثير هذه الثورة أنها وضعت أساس الحرية فى العالم على أسس ثابتة وفتحت عيون الأمم فى الشرق والغرب فكأن تلك الشعلة التى أحرقت فرنسا حينا من الزمان قد أنارت الدنيا بأسرها، وإذا لم يكن لهذا القرن من فضل غير المناداة بالحرية والمساواة للأفراد والشعوب لكفاه.
كما أن من أعمال هذا القرن الاجتماعية استفحال أمر الاشتراكيين استفحالا نفع المبادئ الديمقراطية وأفاد ضعفاء الأمم.
وأملنا الآن موضوع فيك يا أيها القرن العشرون، فلتكن للإنسانية خيرا من أخيك القرن التاسع عشر، ولا تسمح أن يحدث فيك ما حدث فى أخيك من السيئات وأكمل كل الحسنات»، وفى تاريخ سابق فى ١٣ نوفمبر ١٨٩٩ حدث كسوف فى الشمس أثار الكثير من هواجس الناس حول نهاية العالم، وكتب فرح مقالا بعنوان «متى ينتهى هذا العالم؟» يطالب فى نهايته بقيام عالم جديد، ويقول «يسألون متى ينتهى هذا العالم؟ فنحن نقول لهم متى ينتهي، ينتهى حين يعدل الحكام، ينتهى حين يعامل ولاة الأمور شعوبهم كما يعامل الآباء أبناءهم، ينتهى عندما تنفق الحكومات ما تدفعه الشعوب من ضرائب على الأمور الضرورية من تعليم الشعوب وإنقاذها من آفة الجهل والفقر والرذائل والأوهام وليس على البذخ والأمور الكمالية، ويومها يقوم عالم ثان تنيره شمس الفضيلة الباهرة والأدب الغض والعلم الصحيح، وإلا فسواء موتنا وحياتنا فى العالم الحاضر وسواء خرابه وعماره إذا بقى على ما هو عليه»، وبعد أن يتحدث طويلا عن العالم الذى يحلم به يقول «هذه هى العوالم التى يحق أن يؤسف عليها إذا هلكت، ومتى ينتهى أيها الشرقيون هذا العالم الذى نعيشه الجهل فيه سائد، والحق ضائع، والفضيلة مهجورة، والعلم تجارة، والأدب منبوذ، والكبير صغير، والصغير كبير»، ثم يقول «وعندنا أن أولى حاجات الكاتب الجرأة والحرية، حرية النشر والفكر وتحت الحرية تدخل فضائل كثيرة فإنه متى كان الكاتب يكتب بحرية واستقلال، فإنه يكون صادقا منصفا عادلا فى كل أقواله وليس أن يتكلم بحرية فى موضوع، لأنه موافق لمصلحته ويداهن ويصانع إذا كانت الحرية فى غير مصلحته»، ويستكمل فرح أنطون برنامجه للعالم الذى يحلم به فيقول «بضرورة التعليم الإلزامى وأنه يعتقد أن نشر التعليم هو بذاته بداية لمعركة أخطر وهى «المعرفة» فالمعرفة تجلو عن النفس غياهب الجهل وتعلمها كل فضيلة وتدنيها من أبواب السماء، فالمعرفة عدوة الظلمة وصديقة النور، عدوة التوحش وصديقة التمدن، عدوة الضلال وصديقة الحقيقة»، ويضيف إلى ذلك دفاعا مجيدا عن المرأة فينشر فى الجامعة تلخيصا لكتاب قاسم أمين، (الجامعة، السنة الثالثة، السنة الأولي، الجزء السابع عشر، ١٥ نوفمبر ١٨٩٩) وفى عدد الجامعة (السنة الأولي، الجزء ١٨، أول سبتمبر ١٨٩٩ ص ٤١٢) يكتب «اقتراح إلى العلماء» قال فيه «الشعب فى الشرق ساكت جاهل مظلوم يعيش فى أسفل السلم الاجتماعى، ولا يعرف أهو موجود أم غير موجود، وفى أحشائه الشقاء والعناء وجميع الرذائل، يقابله فى الطرف الآخر طبقة الأغنياء المشغولين بملاذهم ومصالحهم ولا يهمهم عاش الناس أم ماتوا، ما دامت صناديقهم ممتلئة وبطونهم مفعمة، وبين هاتين الطبقتين طبقة متوسطة، تعانى جهاد الحياة، وتكاد تسقط فى هذا الجهاد لمحاولتها التشبه بالطبقة التى فوقها وطلب الاقتداء بها»، وفى الجامعة (السنة الأولي، الجزء ١٨، أول سبتمبر ١٨٩٩) يشكو فرح من إعراض الناس عن مساندة مطالبه فيقول «ليست كل نظرية جميلة يود الناس أن ينفذوها. ولهذا فقبل أن تحدث الجمهور بالمبادئ الديمقراطية والاشتراكية يتعين الاستعداد للجهاد فى مقاومة الاستبداد وتأييد الحرية بالقوة».
وفى أحد مقالاته يتخيل أرواح قتلى الحرب ضد الإنجليز، فصعدت أرواحهم إلى السماء فناداهم حارس على الباب قائلا: فى كل حرب لا بد من ظالم ومظلوم وأنتم فريقان متحاربان فليجلس الظالم منكم على مقاعد الظالمين والمظلوم على مقاعد المظلومين، لكن روح من أسماه فرح «مشنوق الإسكندرية» أجفلت لمجرد سماع كلمة الإنجليز وصاحت «الإنجليز ظالمون.. ظالمون وقد رأينا عندنا فى مصر، فالإنجليز لم يكونوا أبدا مظلومين» (الجامعة، السنة الأولي، الجامعة ١٧- ١٥ نوفمبر- ١٨٩٩).
ومهما أطلنا يتبقى الكثير.. ولكن لنتحدث أخيرا عن مسرحيات فرح.. فلنواصل.