ما زال أباطرة ومافيا التمويل الأجنبى يصرخون، ويستقوون بالخارج من أجل الحيلولة دون إصدار قانون الجمعيات الجديد بعد موافقة مجلس النواب عليه، وإحالته لرئيس الجمهورية تمهيدًا لإصداره، والذى أعلن عن إعادة مناقشة مشروع القانون فى إطار مبادئ الدستور، وبما لا يضر بالأمن القومي.
وهذا يعطى لنا فرصة لمناقشة هذه المنظمات والكيانات أيًا كانت تسميتها، بداية ظهورها والعوامل التى ساعدت على نموها وانتشارها!! بما يهدد الأمن القومى المصرى، وهل هذه الكيانات تمثل منظمات المجتمع المدنى الحقيقي؟! أم نحن فى حاجة لخلقها، وإزالة كافة القيود التى تعرقل وجودها، الأمر الذى يتطلب منا جميعًا إجراء أوسع حوار ونقاش مع المهتمين بالمجتمع المدنى، حتى يخرج الحوار من النطاق الضيق والتخلى عن أحادية الجانب سواء الحكومى أو أباطرة هذه المنظمات، وذلك بهدف صالح المجتمع المصرى وأمنه القومى.. فإذا عدنا للوراء قبل عام ١٩٥٢ كان يوجد عمل أهلى فى مصر، لأن طبيعة الشعب المصرى يحب التضامن ومساعدة الغير، لأنه صاحب أقدم حضارة إنسانية عمرها أكثر من سبعة آلاف سنة، وكانت توجد تعددية حزبية مما سهل المشاركة السياسية، ولكن بعد ثورة ١٩٥٢ أخذنا بنظام التنظيم السياسى الأوحد الذى سيطر على كل مناحى الحياة السياسية فى مصر، بما فيها الجمعيات التى كُبلت بقيود عديدة للحيلولة دون تشكيلها، واستمر هذا الحال حتى كانت هزيمة ١٩٦٧ والتى كان من آثارها بروز العديد من حركات الاحتجاج وإرهاصات المطالبة بعودة الحياة السياسية فى مصر، وكانت البداية مظاهرات الطلبة فى عام ١٩٦٨، ثم أعقبتها اعتصامات طلاب الجامعات، ومظاهراتهم فى عام ١٩٧٢ التى كان أحد مطالبهم فيها إقامة حياة ديمقراطية واسترداد الأراضى العربية التى احتلتها إسرائيل، وامتدت هذه الاحتجاجات للعمال فى المحلة وحلوان وكفر الدوار والإسكندرية، وأصبح هذا مألوفًا فى كل يناير، مع بداية العام الجديد.. إضراب، وتظاهر، واعتصام طلابى وعمالى، خاصة فترة الرئيس الراحل أنور السادات وبدايات فترة الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك، وجاءت حرب أكتوبر ١٩٧٣ التى توجت بانتصار الجيوش العربية بقيادة الجيش المصرى على إسرائيل، والتى كان من آثارها ونتائجها إسقاط نظرية الأمن الإسرائيلى التى تعتمد على تزويد الجيش الإسرائيلى بأحدث الأسلحة والمعدات التى تنتجها المصانع الأمريكية وحلفاؤها كورثة للتركة الاستعمارية، لضمان تفوق الجيش الإسرائيلى على جميع الجيوش العربية حتى يكون عصا غليظة لتأديب البلاد العربية، وضمان استمرار تدفق البترول العربى إليها.
ورأت الإدارة الأمريكية ضرورة الاستفادة من الدروس والأساليب التى استخدمتها فى كسب الحرب الباردة وأدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتى والكتلة الاشتراكية، وذلك لضمان أمن ووجود إسرائيل، وتطويق نتائج وآثار انتصار الجيوش العربية على إسرائيل.
فبدأ الترويج للشرق الأوسط الكبير، الذى تكون فيه إسرائيل والبلاد العربية، ونشر مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية.. إلخ.
وتشجيع خلق كيانات ومنظمات موالية لها داخل البلاد العربية تقوم بنقل كل الأوضاع الداخلية من خلال تقارير مقابل إغداق الأموال عليها لتستخدمها وقت اللزوم ضد الأنظمة العربية والتدخل فى شئونها، خاصة التى ترفع شعارات معادية لإسرائيل أو تشكل خطرا حقيقيا على إسرائيل كمصر، وفى القلب منها جيشها البطل، وهذا سر معاداة هذه الكيانات لجيشنا البطل، ورفع شعار «يسقط حكم العسكر». أما التطورات الداخلية التى ساعدت على انتشار ونمو هذه الكيانات فهى القمع الذى مورس ضد حركات الاحتجاج والمظاهرات سواء القبض أو الاعتقال أو تحويل للمحاكمات والسجن والفصل من العمل، ما أدى إلى انصراف البعض إلى نشاط هذه المنظمات، خاصة المتعاطفين مع اليسار المصرى، ناصريين وشيوعيين، ثم امتدت للوفديين وجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين، وكانت البداية التفكير فى الالتفاف حول القيود المفروضة على إنشاء الجمعيات، والوصول لفكرة الشركة المدنية التى لا تهدف إلى الربح استنادًا إلى مادة فى القانون المدنى وكان الغرض من ذلك مصلحة العمل الاجتماعى، ولم يكن واردًا على الإطلاق تلقى التمويل الأجنبى.. وأنا أحد الذين اجتهدوا فى هذا الشأن بمساعدة الأستاذ/ أحمد نبيل الهلالى المحامى إلا أن الأمر انحرف عن الغرض بمساعدة نظام السادات حتى يتم إفساد النخبة، فأخذت تتشكل الشركات ما بين أفراد الأسرة الواحدة، ويتم إثبات التاريخ فى الشهر العقارى وفى بعض الأحيان النشر بالجريدة الرسمية كوسيلة للحصول على التمويل الأجنبى، ومن المفارقات العجيبة كنا نرى الزوج يؤسس شركة مدنية لا تهدف للربح بمشاركة إخوته وكذلك الزوجة لضمان مزيد من التمويل الأجنبى، وتدفقت أموال طائلة داخل مصر لأنها كانت الهدف الرئيسى، ويعلمون تمام العلم أن سقوطها سيؤدى إلى سقوط باقى الأنظمة العربية، خاصة التى حاربت إسرائيل فى حرب أكتوبر، أو رفعت شعارات المواجهة مع إسرائيل، أو شاركت فى جبهة الصمود والتصدى.. ولعبت هذه المنظمات دورا أساسيا فى تخريب وإفساد غالبية الأحزاب السياسية مما شجع النظام أن يترك لها الباب على مصراعيه ووصلت البجاحة بأحد أباطرة هذه المنظمات حينما حصل على مليون دولار من إحدى المنظمات الأمريكية وتقديم أحد الصحفيين بلاغ ضده للنائب العام بأن قال «وإيه يعنى ما النظام نفسه بياخد تمويل أجنبى»، والحادثة الفردية التى حدثت كان القبض على أحد الأشخاص لتلقيه تمويلًا أجنبيًا من الاتحاد الأوروبى بسبب أنه استخدم هذا التمويل فى شراء شقتين بأحد أحياء حلوان من أجل إقامة مستوصف طبى وعيادة شعبية، وانتمائه للحزب الشيوعى المصرى، مما اعتبر خطرًا على الأمن العام لاستخدام التمويل فى عمل سياسى، وأجريت التحقيقات معه بشكل يومى بنيابة أمن الدولة العليا حتى تمت معرفة كل مليم تم صرفه من هذا التمويل، وتم استرداد المبلغ الباقى والتحفظ على الشقتين، والحمد لله كان إنهاء فكرة الشركة المدنية غير الهادفة للربح على يدى، وكان بسبب قيام أحد الأشخاص بعمل شركة لا تهدف للربح باسم «نقابة الصحفيين» وبجهد الأستاذين/ مكرم محمد أحمد وإبراهيم نافع قام وزير العدل بإلغاء ومحو هذه الشركات بالشهر العقارى، إلا أنه للأسف الشديد ما زال البعض منها قائمًا بسبب تراخى وزارة التضامن الاجتماعي؟!
إننا نسرد هذا التاريخ من أجل أن يجرى نقاش وحوار واسع مع جميع المهتمين بإقامة منظمات مجتمع مدنى حقيقى فى مصر، وليس مجرد كيانات ومنظمات مشوهة لتلقى التمويل الأجنبى بما يضر الأمن القومى المصرى، وعلينا إخراج هذه القضية من نطاق أحادية الجانب.. حكومة، ومنظمات التمويل الأجنبى، إلى نطاق جميع المخلصين والمؤمنين بالعمل الأهلى التطوعى وإقامة منظمات مجتمع مدنى حقيقى حتى يعم الخير بلادنا والنهضة ربوع الوطن، وحتى يتحقق ذلك لا بد من فتح ملفات هذه المنظمات ووضع رقابة شعبية حقيقية على مصادر تمويلها وجهة صرفه والانتهاء من التحقيقات فى القضايا المتورطة فيها.