صار السؤال حول هوية
من يملكون وسائل الإعلام من أهم الأسئلة المطروحة فى الأوساط الأكاديمية والمهنية
فى المجتمع الأمريكى خاصة، والمجتمعات الغربية على وجه العموم، حيث بدأت تظهر على
سطح هذه المجتمعات موجات متصاعدة من القلق تنتاب المعنيين بشئون الإعلام وجمهوره،
كنتيجة رئيسية لهذه التحولات التى صارت تشهدها هذه الوسائل فى أنماط ملكياتها وفى توجهاتها
وسياساتها التحريرية.
ولكونها قد أصبحت خلال السنوات العشر الأخيرة لا
تعبر عن حقيقة هوية هذه المجتمعات وطبيعة القيم الثقافية والاجتماعية والسياسية
التى تتبناها، للدرجة التى جعلت كثيرا من الباحثين والنقاد وشيوخ المهنة يعترفون
علانية أن وسائل الإعلام الأمريكية قد تفرق دمها بين الشركات متعددة الجنسية، أو
العابرة للقوميات Transnational Companies ، فأصبح يتنازع
السيطرة على أسهمها: روبرت ميردوخ اليهودى الأسترالى، و Sonyاليابانى، و Polygramالهولندى،
وطائفة أخرى من المستثمرين ورجال المال من جنسيات شتى، الأمر الذى أفقد هذه
الوسائل هويتها وخصوصيتها، وجعلها لا تعبر بالضرورة عن قضايا الشأن الداخلى، ولا
تعكس فى مضامينها أجندة أولويات الجمهور المحلى واهتماماته واحتياجاته، فى مقابل
زيادة ميلها نحو الطابع الدولى ، وإلى نمط من الارتباطات المشبوهة مع دوائر المال
وشركاته ومؤسساته .
ونتيجة لذلك، بدأت قطاعات واسعة من الجمهور الأمريكى
ومن أعضاء اتحادات الصحفيين وروابطهم المهنية تعلن أن هذه الصحافة أصبحت لا تمثلهم،
ولا تعبر عنهم ، وأنها صحافة غريبة على المجتمع الأمريكى وعن طبيعة القيم والثقافة
الغربية التى تحكمه، بل بدأت كثير من القوى السياسية والديموقراطية توجه انتقادات
حادة لأجهزة الدولة ولغرفة الصناعة والتجارة، متهمين إياها بالتواطؤ على الفساد،
والقبول بتمرير كثير من صفقات الاندماج وتكريس سيطرة الاحتكارات، والقبول بمبدأ
تركيز الملكية فى مجال صناعة الصحافة والإعلام بالمخالفة للقوانين المنظمة، وبدأت
هذه القوى تطالب مؤسسات الدولة وفى مقدمتها الأجهزة التشريعية، ونقابة الصحفيين
وروابطهم واتحاداتهم المهنية، بضرورة العمل الجاد على تطوير القوانين والتشريعات
المتعلقة بضوابط الاستثمار، وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية فى المجتمع الأمريكى، حيث
يتفق كثير من النقاد وأبناء الجماعة الصحفية أن القوانين والتشريعات الحالية -رغم
تطويرها وتحديثها- إلا أنها ما زالت تحمل فى طياتها الكثير من الثغرات المقصودة،
وأبواب الفساد التى تمكن أصحاب رؤساء الأموال من اختراق المجتمع الأمريكى.
ويرى كثير من المحللين والنقاد أن أكثر المخاطر التى
أصبحت تتعرض لها صناعة الصحافة والإعلام بشقيه التقليدى والإليكترونى فى المجتمعات
الغربية عموما، يتمثل فى تراجع المعايير المهنية التقليدية الحاكمة لأداء وسائل
الإعلام، وتراجع استقلاليتها المهنية ومساحات وهوامش الحرية بها، جنبا إلى جنب مع
مخاطر الأزمة المالية المتفاقمة، حيث أصبحت الصحافة ووسائل الإعلام فى المجتمع
الأمريكى، وفى كثير من المجتمعات الغربية –نتيجة زيادة التوجه نحو نمط مليكة
السلاسل والاحتكارات والشركات المختلطة Conglomerates أقرب إلى تبنى النمط أو
النموذج الدعائى والسوقى ، بشكل يفوق اهتمامها بممارسة أدوارها المهنية المعروفة ؛
وفى مقدمتها ممارسة الدور الرقابى والنقدى، الذى يمكن الصحف ووسائل الإعلام من
الكشف عن أوجه الخلل والقصور وجوانب الفساد فى ممارسات مؤسسات الدولة وسياساتها،
وكذلك فى ممارسات المؤسسات الاقتصادية والاستثمارية وتوجهاتها، يضاف إلى ذلك تراجع
دو الصحافة ووسائل الإعلام فى التعبير عن كافة القوى والتيارات السياسية والاجتماعية
والثقافية والفكرية السائدة، وإتاحة مساحات كافية للرأى والرأى الآخر، وطرح
القضايا الجدلية المطروحة التى ينشغل بها الرأى العام، وليس انتهاء بعدم وجود
سياسات تحريرية واضحة تحكم أداء هذه المؤسسات وتعكس رؤيتها وطبيعة تحيزاتها.
والغريب أنه رغم تصاعد تيار قوى فى المجتمع الأمريكى
يطالب الدولة بإعادة النظر فى هذه الأوضاع، وضرورة تصيح مسار صناعة الصحافة
والإعلام لديهم، ورغم أيضا وجود كثير من مثل هذه الدعاوى والانتقادات التى تتبناها
كثير من القوى السياسية والديموقراطية والمهنية فى معظم المجتمعات الغربية؛ حماية
لاستقلالية الإعلام فى مواجهة سيطرة رؤوس الأموال والاستثمارات المختلطة، يشهد
المجتمع المصرى –فى المقابل- محاولات مستميتة لاستنساخ هذه التجارب، وهذه النماذج
التى أصبحت تمثل خصما من رصيد الديمقراطية الغربية، وأصبحت تمثل تهديدا حقيقيا
ومباشرا لاستقلالية الصحافة ووسائل الإعلام؛ فلم يعد خافيا على أحد تلك التوجهات
المتزايدة المريبة التى تتبناها فئة محدودة من رجال المال فى مصر، وسعيهم الدؤوب
للسيطرة على سوق صناعة الصحافة والإعلام، من خلال التوسع فى عمليات الاندماج
والتحالفات غير المحكومة برؤى مهنية واجتماعية وثقافية، خدمة لأغراض سياسية
واقتصادية، ولفرض رؤى وتصورات سياسية و اجتماعية بعينها،ورغم وجود بعض الأصوات
الخافتة التى تدين مثل هذه الممارسات، التى ستؤثر بلا شك فى حالة التعددية والتنوع
التى كانت قد بدأت تشهدها السوق الإعلامية فى مصر، إلا أن المتابع الدقيق لهذه
الحالة وهذه الرغبة المحمومة، سيكتشف بما لا يدع مجالا للشك أنها تتم بمباركات
أجهزة الدولة وتحت حمايتها، وإلا فأين دور جهاز حماية المنافسة و منع الممارسات
الاحتكارية؟ وأين دور الأجهزة الأخرى المعنية بمثل هذه الملفات؟
إن الصمت على ما يحدث فى سوق صناعة الإعلام فى مصر
من قبل قوى بذاتها، والدفع بهذه السوق نحو نمط معين الأسواق التى تحكمها نوازع
وتوجهات اقتصادية وسياسية، بعيدا عن المعايير المهنية والأخلاقية، وبعيدا عن رسالة
الصحافة ورسالة الإعلام ومسئوليته الاجتماعية والثقافية تجاه الجمهور وقضايا
المجتمع، لا شك أننا سندفع ثمنه جميعا، ولا شك أن النظام السياسى والحكومة التى تمارس
أسوأ أنواع الصمت على هذه التحولات والتوجهات سيدفعان ثمن هذه الصمت وعدم التحرك
الإيجابى، وسيأتى اليوم الذى نقف فيه جميعا -بعد فترة لن تطول وبعد تمكن هذه
الاستثمارات من السوق– لنحصد ثمار هذا الصمت وهذا التواطؤ، بعد أن تصبح معظم وسائل
إعلامنا الفاعلة رهينة يحركها المال السياسى بدوافعه وأغراضه، ولصالح ارتباطاته
المعلنة والمجهولة، وبعد أن تفقد سوق صناعة الصحافة والإعلام فى مصر هويتها
وخصوصيتها، لنعود نردد مثل أبناء المجتمع الأمريكى والغربي: Who Owns Media Companies؟، من يملك وسائل الإعلام فى مصر؟، خاصة بعد
أن تراجعت مكانة وسائل الإعلام المملوكة للدولة فى السوق كثيرا نتيجة الاعتبارات
المالية والإدارية والمهنية المعروفة، وعدم قدرتها على منافسة وسائل الإعلام
الخاصة، وكذلك نتيجة عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لإصلاح أوضاعها، ناهيك عن أزمة
الصحافة الحزبية واقترابها من طى صفحتها فى تاريخ الصحافة المصرية وفى الحياة
السياسية والاجتماعية.
والسؤال المهم والمطروح بقوة: هل هناك بالفعل من
ينتبه لمثل هذه التحركات ويدرك حقيقة مخاطرها وتأثيراتها فى المديين القريب
والمتوسط؟
للتواصل
د. محرز حسين غالى
أستاذ الصحافة المساعد بجامعة القاهرة
البريد الإلكتروني:-
Mehrezhusien@yahoo.com