الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

الحنين للبحر والصحراء.. أسطورة مساكين اتخذوا الشعر ملاذا

عمال البحر_للفنان
عمال البحر_للفنان الفرنسي إدوارد مانيه
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتبادر إلى أذهان البعض أن لفظ "المساكين" لفظ يطلق على الفقراء والمتشردين في الشوارع؛ لكن المعنى الدقيق للكلمة يندرج تحته شريحة عريضة من الناس على مختلف طبقاتهم ومستواياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
فربما يكون رجل أعمال ثري ومشهور مسكين لإنه –رغم كل هذا الثراء- ليس في استطاعته استمالة قلب محبوبته؛ وربما يكون شخص يشغل وظيفة لائقة ويتقاضى راتبًا يلبي كافة احتياجاته ومتزوج ولديه أبناء يعيشون في نعيمه ومع ذلك مسكين لإن الحياة لم تمنحه فرصة تحقيق حلمه فربما كان يريد أن يصبح عازف قانون في فرقة شعبية بسيطة ومنعته دوامة الحياة والنسق الاجتماعي من ذلك.
المساكين هم جزء حالم من البشرية ظهر بظهورها ولم يكتب له النهاية؛ وجودهم في الحياة صنع مشاهد درامية عديدة وردت في أمهات الكتب وقصائد الشعر بما في ذلك الكتب السماوية.
فورود لفظ المساكين في القرآن تكرر بكثرة كما تكرر في التوراة والإنجيل؛ ولم ينس أحد تلك القصة بين موسى والخضر ولقائهم المرتقب عند ملتقى البحرين فتطرأت القصة كما وردت في القرآن إلى أولئك المساكين الذين يعملون في البحر ولديهم مركب يقتاتون منها لكن ملكا جبارا موجودا في تلك المنطقة يستولى على هذه المراكب ويضمها لممتلكاته ويتحول الصيادون أصحابها لعاملين بالأجر لديه يمص دمهم لولا أن الخضر كسر قطعة خشبية من مركب هؤلاء الصيادون الذين استضفوه هو والنبي موسى في رحلتهم البحرية؛ لكان أخذها ذلك المستبد وبذلك أخرج الخضر الصيادين من ثوب المسكنة الذي يرتدونه وحولهم من مساكين لأصحاب أملاك حقيقية.
وتستمر قصة موسى والخضر ويتحول المساكين العاملين في البحر لمجرد تفصيلة جاءت على هامش القصة.
لكن ديوان شعر بعنوان "مساكين يعملون في البحر" صدر حديثًا هذا العام ضمن إصدارات هيئة قصور الثقافة للشاعر عبد الرحمن مقلد قد أعاد إحياء ذكرى أولئك المساكين واستنطقهم جميعًا ليخرج من بين شفاههم شعرا يعبر عن معاناتهم واختلاج نفوسهم ليكتشف قارئ الديوان أن أسطورتهم أسطورة كل مساكين العالم بما فيهم الشاعر عبد الرحمن مقلد نفسه.
يضم ديوان "مساكين يعملون في البحر" ثمانية عشر قصيدة؛ السبعة الأوائل منهن تأتي عناوينهن كالتالي: "يعملون في البحر"، "مثل فلاسفة قدماء"، "أنا مثلكم أتألم"، "الدم"، "عدوان"، "ثلاث وعشرون قاطرة"، "موعظة الرحلة"؛ ويستطيع القارئ للديوان أن يستنتج خلال قرائته الأولى أن السبعة قصائد تلك تشكل العمود الفقري للديوان بأكمله أو إنها الديوان أصلًا؛ أو ديوان مستقل بذاته عن الإحدى عشرة قصيدة الأخرى؛ لما فيه من حالة شعورية عامة تغلفهم جميعًا ولغة متناغمة تناغما كليًا مع فلسفته؛ ففي قصيدة "يعملون في البحر" يقول: "في الحَقيقةِ/ لم نَكْترِثْ للمُلوكِ/ ولا للعَبيدِ/ ونَعملُ في البَحرِ/ مُنذُ قَديمٍ/ ولا نتَمنَى نَهارًا يُضيءُ/ ولا مَنزِلًا نَستَقرُ بِه/ فالسَكِينةُ تَحمِلُنا/ كلَّ لَيلٍ طَويلٍ إلى كَهفِنا/ في البَياضِ/ ولا نَتمرَّسُ فى الصَيدِ/ أو نَتبارَزُ من أجْل سَردينةٍ/ أو مَحَارٍ/ لنا الجُوعُ مُتسَعٌ/ والشَرابُ سيكفي الجَميعَ/ ومن حَظِّنا أنْ فقدْنَا خَيالاتِنا/ عن نِسَاءٍ عَلى الشَطِّ/ يَصنعْنَ غَزْلًا جديدًا لأنوالِهن/ ويُبقينَ قُمصَانَنَا فى الأَسِرَّةِ/ تَحْمِي رَوائِحَنا/ ولا نَتذَكرُ أبنَاءَنا/ فى البَرَارِى يَلوحُون/ أو يَهدِمونَ بُيوتًا مِن الرَملِ/ فى اليَابسِ الضَحلِ/ يَبكُون للبَحرِ حَتى نَعودَ" صوت واحد يغلف النص من أوله إلى آخره وهو صوت أولئك العاملون في البحر المساكين جاءوا ليلعبون دور البطولة في ديوان عبد الرحمن مقلد بعد أن كانوا مجرد تفصيلة في قصة موسى والخضر؛ ليشتبك اشتباكًا كليا مع فلسفة البؤساء والمساكين الذين فقدوا اهتمامهم بمظاهر الحياة من غزل نساء ولعب الأطفال في بيئة صحراوية فاختيار البراري هنا جاء بمقصد خلق بيئة بسيطة لا تضج بالمباني والمؤسسات مثل المدن الكبرى؛ بيئة شفافة يستطيع الشاعر أن يرسم فيها صوره بحرية تامة؛ بعد هذا الاستعراض لحياة العاملين بالبحر الذي يحيط بهم الأزرق في النهار من كافة النواحي والأسود في الليل فيعترفوا في خاتمة قصيدتهم قائلين:"أزيلوا مِن اللُغَةِ/ البَضَّ مِنها/ وأَبْقُوا الهَزِيلَ/ أزِيلُوا: العِتَابَ/ الضَواحِي/ الحَرِيرَ/ السَمَاء/ الليَالي/ الورُود/ الَبنات/ الظِلالَ/ التِلالَ/ الحَنَانَ/ الخُمُول/ وأَبْقُوا الهَزِيلْ" فينتصروا لوضعهم البائس هذا ويبقى وضعهم على ما هو عليه؛ ويظن القارئ أن الشاعر وقع فخ التشاؤم إزاء القضية الفلسفية التي يشتبك معها؛ لكنه لو أمعن القراءة لادرك أن العاملين بالبحر هنا أتخذوا من الشعر ملاذًا للخروج من حالة المسكنة التي يعيشون بها؛ فكانت القصيدة في حد ذاتها هي الحل الوحيد لديهم ولدى الشاعر للهرب مما يأرقه؛ وهنا يحيل قارئه لفلسفة أخرى وهي فلسفة التعبير عن المعاناة ومدى الإمكانية أن يكون التعبير في حد ذاته هو الطريق إلى الخلاص؛ وما بين صوت النحن وصوت الهو وصوت الأنا، تتعدد وتتداخل الأصوات في الستة قصائد التاليات لتلك القصيدة؛ وتتكاثر مشاهد البحر والصحراء ومشاهد البيئة الأسطورية التي تمهد للشاعر الهروب من واقعه والتحليق فيها ماشاء التحليق؛ بلغة أقرب إلى لغة الأساطير والأسفار والكتب القديمة ضفرها الشاعر ببراعة لتخدم فكرته مما يؤكد أن هناك جهد مبذول لصناعة تلك الحالة الشعرية البديعة.
أما الإحدى عشرة قصيدة الأخرى فتنقل القارئ إلى ديوان آخر غير "مساكين يعملون في البحر" فربما كان الحنين والاشتباك مع قضايا عصرية وعدم شغل البال بقضية فلسفية ما تؤرق الشاعر وتوحد بين القصائد وبعضها هي السمة الغالبة علىها فهناك 6 شخصيات تم كتابة قصائد لأجلهم ووقع شخصياتهم على نفس الشاعر شكل موضوع تلك القصائد وهم ثلاث شخصيات عامة منهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش والفنانة فاتن حمامة والشهيد مينا دانيال؛ وثلاث شخصيات مقربة من الشاعر وهو والده وابنه مصطفى وصديقه الشاعر محمود سباق؛ يتبقى خمسة قصائد في الديوان هم "في مديح المحبة" "الأناشِيد"، "خراب يملأ العين"، "الثورة" "على كل حَال"؛ ويشعر القارئ لهم أن جميعهم يتضمن حالات نفسية تختلف في كل قصيدة عن الأخرى وكأنهم كتبوا في فترات سابقة أو بعيدة عن قصائد الديوان الأولى ومنهم قصائد تشعر أنها تشتبك مع قضايا مجتمعية حدثت بعينها مثل قصيدة الثورة فيشعر قارئها إن كان مصريًا أن وحي هذه القصيدة هي ثورة يناير.
ويشمل الديوان 4 افتتاحيات، أولها من سورة الكهف من القرآن الكريم "أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا" ومقولة للمتصوف أبو يزيد البسطامي "قالوا إن سبعة آلاف من السنين قد مضت ولكن النرجس لا يزال غضًا طريًا لم يصل إليه كَفُّ أى أمل بعدُ" بالإضافة إلى مقطع من شعر الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس ومقطع من كتاب "اعتراف منتصف الليل" للأديب الفرنسي جورج ديهامل؛ ورغم أن قصائد الديوان موزونة وتندرج تحت شعر التفعيلة إلا أن "مقلد" في ديوانه، يجمع بين طبيعة القصيد النثري الجديد مع طبيعة القصيد التفعيلي، ويكشف موقفه من المجاز اللغوي والبلاغي الذي استنفد طاقاته، كما يكشف موقفه الجمالي من الغناء والغنائية، وانحيازه إلى ما أُهمل في فضاء اللغة.
ويعتبر "مساكين يعملون في البحر" للشاعر عبدالرحمن مقلد الصادر في نهاية العام الحالي أحدث ضجة ملحوظة بين النقاد والأدباء، هو الديوان الثاني له بعد "نشيد للحفاظ على البطء"؛وشارك الشاعر في العديد من مؤتمرات الشعر، آخرها مهرجان الأقصر للشعر العربي في دورته الأولى، وحصل على عدد من الجوائز، من بينها جائزة المكتب الثقافي المصري بباريس.