رغم معاناة أوروبا في القرن الرابع عشر من الطاعون الأسود ونقص عدد السكان وانحطاط النشاط الزراعي والإنتاج الحِرفي وانخفاض حركة التجارة والأزمات المعيشية والاضطرابات التي طالت النظام النقدي، فإن هذه المظاهر السلبية لم تكن وحدها تميز تلك الفترة. فحتى في خضم تلك الأوقات العصيبة، كان هناك قادة وجماعات ومؤسسات يسعون ويعملون أو يرفضون ويقاومون، ويكتشفون تقنيات جديدة، وإذا بهم في النهاية يتوصلون إلى شيء جديد من أنماط المعيشة ويبشرون بميلاد عصر جديد، وهو عصر الإصلاح العظيم في القرن السادس عشر.
ولم يكن عصر النهضة مجرد انفجار ثقافي وفكري وعملي غيّر معالم الحياة في أوروبا ومقاييسها وقِيمها في قرن واحد، بل في ثلاثة قرون من الثالث عشر إلى السادس عشر، التي صاحبتها تغييرات جوهرية في الحياة الأوروبية، قد حدّدت ملامح أوروبا إلى اليوم، من أهمها:
• تبلورت اللغات والآداب القومية الحديثة في أوربا.
• تبلور حركات الاستقلال القومي لبلاد أوروبا.
• تبلور الكنائس القومية وانسلاخها من الكنيسة الرومانية المقدسة.
• انهيار النظام الإقطاعي نتيجة حركات الوحدة القومية وظهور الملكية المطلقة.
• حلول الطباعة، بعد أن نقل الأوروبيون عن الصينيين صناعة الورق، محل النَّسْخ اليدوي منذ اختراع جوتنبرج (1394- 1468م) المطبعة. وكانت طباعة أول كتاب في تاريخ النشر هو الكتاب المقدس سنة 1450م. انتقل هذا الاختراع العظيم إلى كل نواحي ألمانيا، ومنها إلى بقاع العالم. ويُعتبر اختراع الطباعة من أهم عوامل انتشار النهضة في أوروبا. فقبل ذلك كان التعليم كله- تقريبًا- في يد الكنيسة، وكانت الكتب باهظة الثمن، والنَّسْخ مجهِدًا ومكلِّفًا. فنتائج هذا الاختراع متعددة، فقد وصفه "إرازمس" المفكر الهولندي العظيم بأنه أعظم المكتشفات. فقد أدت الطباعة إلى أن تحلَّ النصوص رخيصة الثمن محل المخطوطات القليلة غالية الثمن، كما أدت إلى غزارة الإنتاج العلمي المطبوع، فتضاعفت أعداد النسخ، فضلًا عما امتازت به من دقة وخفة الوزن، وجعلت الكتاب المقدس مِلكًا شائعًا لكل مسيحي، وهيأت الناس للثورة الدينية بالتحول من الاحتكام للباباوات، إلى الاحتكام إلى الإنجيل والعقل.
وعلينا أن نعترف بأن اختراع جوتنبرج الحروف المتحركة في الطباعة جعلها أهم العوامل التي حققت رواج أفكار الإنسانيين (Humanism) وجعلت أفكارهم أكثر انتشارًا.
• اكتشاف أمريكا في 1492 وغيرها من بقاع العالم المجهولة. ويُعد اكتشاف أمريكا والطريق إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح من أهم وأعظم الأحداث التي وقعت في القرن الخامس عشر. وقد وضعت الإنسان وجهًا لوجه مع مشاكل جديدة، ومفاهيم جديدة، واهتمامات جديدة والتي رسمت خطوطًا واضحة للحدود التي تفصل بين العصور الوسطى والعصور الحديثة.
• الإيمان بأن الإنسان قيمة في ذاته وأنه سيد مصيره. مما أدى لظهور حركة الإنسيّة كردّ فعل على مذاهب التصوف والزهد التي أنكرت الذات الإنسانية.
وقد ازدهرت الإنسيّة كحركة تاريخية في أوروبا من القرن الرابع عشر وحتى السادس عشر الميلادي، حيث شكَّل منطلقها الأساسي لدراسة الإنسانية جوهر الفكر للحركة الثقافية التي عُرِفت بـالنهضة. فالنزعة الإنسانية تُعلِّم أن لكل شخص كرامته وقيمته، ومن ثم يستحق أن ينال احترام الآخرين.
وفي القرن الخامس عشر تبلورت هذه النزعة بحركة فكرية أكثر نضجًا وعقلانية قامت على الأسس التالية:
• أنها تمثل نزعة احتجاج على العلوم البالية التي كانت سائدة.
• أنها نزعة تحرير العقل الإنساني من قيود تلك العلوم ومن سلطة الكنيسة والدولة.
• تمكين العقل من اتباع قواعده في الإدراك والتفكير اللذين يثيرهما حب الحقيقة.
• أكدت الاهتمام بالقيم الطبيعية بدلًا من الاهتمام بالقيم ما فوق الطبيعية.
كان من بين رواد النزعة الإنسانية، يوهانز روشلين (روخلين) ودزيدريوس إرازموس. اللذين أسهما بقوة في إعداد المناخ والعقول لفكر الإصلاح، فأُطلق عليهما "عينا الإصلاح".
يوهانز روشلين
قد ظهر يوهانز روشلين Johannes Reuchlin) 1455 ـ 1522م) في بداية النهضة الألمانية، وكان أفضل المعروفين من الألمان ذوي النزعة الإنسانية، وواحدًا من رواد الحركة الإنسانية. تلقَّى العلم بتوسع في الدراسات الكلاسيكية، أولًا في باريس ثم فلورنسا.
• كان روشلن حجة في الدراسات اللاتينية واليونانية والعبرية أيضًا. كان أول شخص غير يهودي يستطيع أن يكتب كتابًا في قواعد اللغة العبرية وأصولها، ثم قاموسًا لها، ومن ثم أصبح روشلين (رائدًا) وأسبق عالم مسيحي في العبرية.
• ثار روشلين على تعاليم الكنيسة السائدة آنذاك حتى انتهى الأمر بمحاكمته، غير أن علماء ومفكري النهضة الألمانية وقفوا للدفاع عنه، وأكدوا الحرية الفكرية وحرية الدراسة، مما أدى في النهاية إلى إطلاق سراح روخلن.
• حاول التوفيق بين الأخلاق المسيحية ومفاهيم الإنسانية، بل أكد النظرة الإيجابية للحياة.
• فتح روشلن باب العهد القديم أمام الدارسين المسيحيين. ومع أنه لم يكن في صف المصلحيين والإصلاح، حيث عزل نفسه عن حركة الإصلاح، إلا أنه قدّم خدمة لا تُقدّر للدراسات الكتابية.
• رغم أنه لم يتحمس لحركة الإصلاح، لكنه في إحدى المناسبات حمى مؤلفات مارتن لوثر من أن تُحرق، بل الأعظم من ذلك أنه تلمذ شخصًا عظيمًا يدعى فيليب ملانكتن، وهو ابن اخته، الذي صار فيما بعد ذراع مارتن لوثر الأيمن.
إرازموس
دزيدريوس إرازموس روترداموسDesiderius Erasmus Roterodamus)، 1469-1536م)، وُلد في "روتردام" بهولندا، واشتهر بمكان مولده حتى كان يُعرف عادة باسم إرازموس الروتردامي. تلقَّى تعليمه المبكر بين "أخوة الحياة المشتركة". كان راهبًا أوغسطينيًّا لمدة وجيزة، وصار في وقت لاحق سكرتيرًا للأسقف كامبريا(Cambria) في فرنسا، ثم رُسِّم كاهنًا عام 1498م.
عاش في نوتردام باريس، وتَعلَّم هناك في جامعتي باريس وبولونا، وانتقل إلى التدريس في جامعتي أكسفورد وكمبريدج.
هو فيلسوف هولندي، من رواد الحركة الإنسانية في أوروبا. يَذكر الدكتور جون لويمر في كتابه تاريخ الكنيسة، أن هناك إجماعًا لدى المؤرخين على أن إرازموس أبرز فلاسفة "النزعة الإنسانية" وأعمقهم تأثيرًا.
كان يكتب باللغة اللاتينية. وكان يلقب عند الكثيرين بأمير الإنسانيين؛ بسبب قوة دعوته للإخاء الإنساني في زمن مزقت فيه الخلافات والحروب الدينية أوروبا بأسرها.
كان يؤمن بتمجيد الحياة الإنسانية، ورفض إذلال الجسد والتقشف، وهاجم مفاسد الكنيسة. لكنه رفض انقسام العالم المسيحي إلى قوميات تحارب بعضها بعضًا، وكنائس قومية متنابذة ومتعارضة.
حاول التوفيق بين قيم النهضة وقيم العصور الوسطى. فوضع ما يسمى في الفكر الأوروبي "الإنسيّة المسيحية، Christian Humanism "
عكف إرازموس على دراسة المؤلفات اليونانية واللاتينية، ونشر الإنجيل باللغة اليونانية، كما نشر تعليقات الآباء والرسل، وأخذ ينتقد أحوال الكنيسة، ويطرح طرق إصلاحها دون الخروج عليها أو هدم قواعدها الأساسية.
كان إرازموس المستشار الأدبي والمشرف على ما تصدره جامعة بازل من مؤلفات ثقافية. وكان نجمًا لامعًا، واعتُبر العالِم الأبرز في أوروبا. كما يُعد من أهم المساهمين في تغيير معالم نهضة الكنيسة في أوروبا.
إيمانًا عميقًا من إرازموس بأن السبيل الوحيد للإصلاح عن طريق الكتاب المقدس، أصدر أول طبعة للعهد الجديد باليونانية عام 1561م. وقد تضمنت النص اليوناني في عمود وترجمته في العمود الثاني، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الحواشي. فقد كان من أولوياته ترجمة الكتاب المقدس إلى لغة التخاطب، مع أنه لم يكن هو نفسه مترجمًا (إلا إلى اللاتينية)، ليستفيد من الكتاب أهل اللغات المختلفة وعامةُ الناس كالفلاحين والحاكة والمسافرين وغيرهم.
كتب إرازموس في مقدمته للعهد الجديد: "أعارض بشدة من لا يسمحون لعامة الناس أن يقرءوا الأسفار المقدسة ويحرّمون ترجمتها إلى اللغات القومية الشائعة".
كان إرازموس فارس سلام في زمانه، فكان له موقف فريد بين مفكري عصره. وكان مقتنعًا بحركة الإصلاح بقيادة لوثر، وثورته على مفاسد الكنيسة، على نفس الدرجة كان مقتنعًا بضرورة الحفاظ على وحدة الكنيسة. فقال مقولته الشهيرة: "ليس من الضروري أن نتخلى عن العلم والمعرفة لنكون مؤمنين. وليس من الضروري أن نتخلى عن الإيمان لنكون متعلمين".
حاول إرازموس أن يحمي لوثر من الاضطهاد، وأتاح له فرصة عادلة لكي يشرح آراءه، فاقترح تشكيل لجنة تحكيم من الفقهاء المستنيرين والمحايدين.
فلسفة إرازمس
يعتبر إرازمس أحد مشاهير الفكر التربوي في عصر النهضة، وكان له تأثير كبير في تفتيح الأذهان للعهد الجديد. ومع أن أبحاثه وكتاباته تناولت جوانب فكرية متعددة إلا أن فكره التربوي كان مفتاحًا لكتاباته في كل الميادين الأخرى.
يرى إرازمس أن أهم مبدأ من مبادئ التربية، هو إتاحة الفرصة للطفل لكي تتكون حواسه تكوينًا سليمًا، وتتشبع روحه بنعم الحياة المتعددة. وقد رسم برنامجًا تربويًّا حدد فيه ملامح التربية التي نادي بها، والذي تكون من أربع مراحل وهي:
• العناية بالوليد وتوفير وسائل النمو ومقوماته له في إطار من الحرية والتفهم.
• يُحبب الطفل بالدراسات الحرة وفي دراستها وإتقانها.
• تدريب الطفل على القيام بواجبات الحياة وأعبائها.
• تقويم أخلاق الفرد منذ مولده على أن يستمر ذلك طوال حياته.
مات إرازموس عام 1536م، في أوروبا الملطخة بالدماء والتي استمرت على هذه الحال عدة قرون. وما زال حلمه ورؤيته اعتبرهما بعض الناس خيالًا. إلا أن فكر إرازموس وقلبه ليس فلسفة خاصة، ولا تعليمًا دينيًّا، بل هو وجه جوهري من وجوه الدين المسيحي، وشكل من أشكال الفكر النقدي والحساسية البشرية، ومزيج غريب من التحمس والتهكم، وتوازن مبرر من الرفض الثوري والإرادة المُصلحة، هو تعليم و"مثال" لذوي الإرادة الحسنة في زماننا.
أدت الحركة الإنسيّة "الإنسانيون" دورًا حيويًّا في توعية الناس وتهيئة العقول لقبول فكرة الإصلاح. فقد اهتموا بدراسة اللاهوت والعقيدة المسيحية. واتخذت النهضة طابعًا من الإصلاح الديني وحلقات من التراث في الجامعات الألمانية. كما انتقدت المظاهر السلبية في الكنيسة، ورجال الدين، وأفسحوا المجال أمام النقد وحركة التغيير والإصلاح. في هذا المناخ وقع العديد من زعماء الإصلاح تحت التأثير المباشر لأفكارهم، وأولهم مارتن لوثر.
وختامًا لهذا المقال الذي ينتهي بدراسة نهاية العصور الوسطي وعصر النهضة، لينتقل إلى داسة عن الإصلاح. ألا يقدّر لنا أن نعترف بأن المناخ الديني والعلمي والاجتماعي، كان حرثًا جيدًا لأرض تلقى عليها بذور الإصلاح الديني للعبقري مارتن لوثر، ليصنع بها تاريخًا فاصلا على كل المستويات حتى هذا اليوم!