في كتابه الصادر عام 2006 عن وزارة الثقافة السورية بعنوان «الأدب الشعبي في حلب» يحاول الدكتور محمد حسن عبدالمحسن الأستاذ بجامعة حلب جمع الكثير من المأثورات الشعبية الخاصة بمدينة حلب، وهي المحاولة التي قال عنها د. وانيس باندك في مقال له نشرته جريدة البيان الإماراتية أنها أتت لإنقاذ هذا الأدب من النسيان، " فكثير من مأثورات هذا الأدب باتت تحت رحمة عالم متغيّر، وما برحت الأيدي العابثة تحرّف وتبدّل فيها، ويحاول الباحث ان يحفظها ويصونها من براثن التغيير والتحريف، ويذكّر الجيل المعاصر بها وبمدلولاتها وبأهميتها، كما يذكّرهم بأن صور الحياة الماضية التي بدأت تتلاشى، والمأثورات الشعبية التي بدأت تزول تدريجيًا ليست إلاّ الخلفية الثقافية الصلبة التي ينطلقون منها إلى المستقبل.
يتألف الكتاب من مقدمة وعدة عناوين فعن تعريف "الأدب الشعبي" يصوّر الباحث الأدب الشعبي بالمرآة التي تعكس الصورة الحقيقة لحياة مجتمع من المجتمعات، وهو شكل من أشكال الإبداع الشعبي المتعددة، فهو جزء من كلّ، هناك الموسيقى الشعبية - الرقص الشعبي - الفن التشكيلي الشعبي - إلى جانب الأدب.
ودراسة الأدب الشعبي يجب أن تبقى متطورة ومستمرة حتى تواكب التطور الحضاري "التكنولوجي"، فكلما زادت التقنية العلمية تقدمًا ما، زادت الدراسات التراثية تألقًا ووضوحًا على عكس الفكرة الشائعة بأن الثانية تطغي على الأولى وتؤخرها. يتفق الباحث في تعريف الأدب الشعبي مع ما ضبطه الدكتور حسين نصار في رسالته "الشعر الشعبي":
"الأدب الشعبي هو الأدب المجهول المؤلف، العامي اللغة، المتوارث جيلًا بعد جيل بالرواية الشفوية"، عن "سمات الأدب الشعبي الحلبي" يصف الباحث هذا الأدب بجملة من الخصائص، أهمها: 1 - شموله لمختلف مظاهر الحياة وجمعه بين الأضداد من هذه المظاهر. 2 - قدرة هذا الأدب على العطاء، فكثير من المحدثين يقتبسون من الموسيقى والأغاني والمواويل والحكايات الشعبية، ويستفيدون بذلك من انسيابها الطبيعي، وفطريتها ونقاوتها وسيرورتها.
3 - حيوية هذا الأدب وصلاحيته الدائمة لاحتضان الألفاظ والتراكيب والمعاني الجديدة، وييسّر له ذلك مرونة نسيجه النحوي والبلاغي، ودليل تلك الحيوية كثرة المسمّيات الحضارية والمخترعات الحديثة فيه، فهو يستقبل كل جديد، ويحتويه ويتمثله.
4 - قدرته على تصوير الإنسان الفرد والنموذج، وإعطائه ملامحه الخاصة، وتوضيح سلوكه الروحي واحتياجاته النفسية، وقدرته على ربط الحاضر بالماضي.
5 - واقعيته، إذ إن عالم الإنسان الشعبي عالم حسّي، ولهذا فإنه يعبّر عن فلسفته مستعينًا بالأشياء التي يحسّها، ويلمسها في الواقع، وهكذا كان الأدب الشعبي الحلبي ومازال مرآة صادقة للواقع كما هو.
6 - قرب الأدب الشعبي الحلبي من حسّ عامة الحلبيين، فهو منطوق بلغتهم وفيه موروثهم الثقافي والحضاري تناقلوه شفاهة من جيل إلى جيل، وانتشر فيما بينهم، إلى أن قيّض الله لهذا الأدب بعض الأدباء الذين سعوا الى تدوينه وحصره وتسجيله كالعلاّمة محمد خير الدين الأسدي والأب يوسف قوشقجي. عن "مظاهر الحياة الاقتصادية في الأدب الشعبي الحلبي» يرصد الباحث الأدب الشعبي الحلبي في مختلف وجوه النشاطات الاقتصادية التي مارسها الحلبيون من تجارة وصناعة وزراعة.
إن أكثر ما اشتهرت به حلب قديمًا هو "التجارة"، لكونها عقدة مواصلات تحتل مركزًا تجاريًا مهمًا يتوسط العالم القديم. وعرف الحلبيون هذا عن مدينتهم وأكدوا أهمية موقعها كعقدة مواصلات "كل ضيعة إلا درب عَحلب"، لذا تعاطي معظمهم التجارة وافتخروا بها وجعلوها أهم مورد للرزق عندهم، وجسّدت مأثوراتهم الأدبية ذلك.
واعتدّوا بقدرة الحلبي "أعرج حلب وصل للهند" وبسمعتهم التجارية الطيبة وبالثقة العالمية بتجارتهم. فقد جاء تاجر من النمسا وسأل عن ذمّة الحلبيين فأُجيب: هنا في حلب لا كما في العالم، لا يحتاج التاجر لكمبيالة أو توقيع أو كتابة سند وإنما سنده وعده. ولقد كانت علاقاتهم التجارية مع الأجانب قوية ولا سيما مع الايطاليين حتى دخلت في ألفاظ التجارة عندهم كلمات إيطالية كثيرة مثل:
"برميل - بسكويت - برنيطة..." واتخذ تجار البندقية "خان البنادقة" مستقرًا لهم في حلب، كما جعل الحلبيون للتجارة آدابًا بمثابة العرف السائد في أسواقهم، يقول البيّاع في أوّل بيعه: "استفتاح امبارك بالصلاة عالنبي". وهناك أمثلة شعبية كثيرة في مجال التجارة لا مجال لذكرها جميعًا.
في "الصناعة" امتازت حلب - بالإضافة الى التجارة - بتقاليدها الصناعية العريقة وتنوع صناعاتها، وقد أثّرت الصناعة بكل أنواعها وأصنافها تأثيرًا كبيرًا في أخلاق الحلبيين، فهم في حكمهم وأمثالهم وتهكماتهم وأقوالهم، وفي مختلف أساليب البيان كالاستعارات والكنايات والتشابيه، يدعون الى امتهان صنعة أو احتراف حرفة، "صنعة في اليد، أمان من الفقر"، ومن أمثالهم: "البِإيدو صنعة بيملك القلعة"
كما يرون ان لكل مصلحة أربابها فـ «كل شغلة بدّا أهلا». والاختصاص في الحرف مطلوب عندهم ليحقّق عنصر الابداع والابتكار، من تشبيهاتهم: "فلان متل المسلّه: ما بشتغل إلاّ فَرد شغله". ويسخرون في أقوالهم وتهكماتهم ممّن يعتدي على غير صنعته، "الكار اللّي ما هو كارَك بخرب ديارك" كما يسخرون ممّن لا يثبت على عمل: "كتير الكارات قليل البارات" والبارة عملة تركية قديمة.
عن "الزراعة" يصف الباحث أهل حلب بأنهم يمارسون الزراعة ويسمونها «البستنة» فاشتهرت أسر منهم بها. وتقوم زراعتهم إما على ضفّتي نهر «قويق» الذي يخترق المدينة ويشطرها الى شطرين، أو في القرى المحيطة بحلب، فنراهم يحسدون مَن له ضيَع وممتلكات تدرّ عليه الأموال في كل موسم:
"ضيعتو بتدرّلو معيشتو" وفي هذه الاستعارة ما يدل على ان الزراعة في رأيهم لا تدرّ الارباح الطائلة كالتجارة، إنما معيشة الإنسان فقط، لذا نراهم تجارًا وسطاء للمواد الزراعية أكثر من كونهم مزارعين منتجين. وقد اكتسب الحلبيون خبرة في توقيت المحاصيل الزراعية وفي أنواعها المفضلة وطرق زراعتها وحمايتها، فيخصّون لكل بستان أو مزرعة ناطورًا يحميه ويحرسه من العبث وإن كانوا لا يثقون به لذلك يقولون: "ما بنطر الكرم إلاّ صاحبو" و"الكرم لو يسلم مالنواطير بحمل قناطير".
ويخضع الحلبيون المنتجات الزراعية لقانون العرض والطلب، يقولون "يا سعادة البساتين اللّي بتلحَق خضرتا بكّير، تَتبيعا فلفل وقرنفل" فالخضار المبكرة تُباع بأحسن الأسعار ولا تكسد مطلقًا، لأنها تكون قليلة، وحين تكثر في موسمها تكون رخيصة الثمن، "كل شي على بيدَرو رخيص".
ومن تشبيهاتهم "متل الخيار أوَّلو للكبار وآخرو للحمار" فالخيار غالي الثمن في أول موسمه، ولا يقدر على شرائه إلا الأغنياء، وحين يكثر في موسمه يرخص ثمنه بحيث يطعمونه للحيوانات. والملاحظ ان المواويل والأغاني والهنهونات والشدّيات والأهازيج الشعبية كلها تقترب من الشعر الشعبي في إيقاعها وموسيقاها وموضوعاتها وأغراضها. ومن خصائص الشعر الشعبي الحلبي أنه يقترب من الشعر الفصيح في الشكل والمضمون فأغراضهما واحدة، كالغزل والوصف والهجاء والشكوى والحكمة.
يضيف الباحث بأن الشعر الشعبي الحلبي امتاز بتلاحمه الوثيق مع الواقع وبارتباطه بهموم الحلبيين وآلامهم وآمالهم ارتباطًا وثيقًا، لأنه يصاغ بلغتهم اليومية، ويعبّر عما يختلج في صدورهم ونذكر بعض الأبيات الشعرية كشواهد على ما ذُكر: "قال: محبوبتي في السما شلون الوصول ليها؟
قال ولو: خشخش لها بالدهب بتركد عأجريها"، "الأعزب ويا دلّو مافي حدا يخسل لو "، "اللي برقص واحبابو الله يفرّح شبابو "، «ياللي باركة في البستان وجّك مليان حلاوة "، "كل الزهور يزهروا في كل سنة مرّة إلاّ خدودك يا روحي ! دوم محمرّة".