للمرة الثانية أو الثالثة أكتب عن أزمة صنع القرار فى مصر. ومن المعروف فى علم الإدارة أن صنع القرار له قواعد معينة.
ولعل أهم هذه القواعد هو الإلمام الدقيق لصانع القرار بمختلف جوانب الوضع الذى يواجهه، سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو ثقافيا. وفى هذا المجال لابد له من أن يعتمد على المؤشرات الكمية والكيفية المتعددة التى توصّف الوضع الراهن الذى يراد تغييره إلى الأفضل.
والقاعدة الثانية هى ضرورة الاعتماد على المكاشفة والمصارحة حتى تلم الجماهير بأسباب ودواعى إصدار القرار، والفوائد التى ينتظر أن يجنيها المجتمع من إصداره.
والقاعدة الثالثة هى ضرورة أن يقدّر صانع القرار النتائج المتوقعة والنتائج غير المتوقعة من إصدار القرار.
ويساعد مُصدر القرار على القيام بمهمته بنجاح أن يقدم للجماهير خريطة تفصيلية للواقع السياسى والاقتصادى السائد، حتى يظهر بجلاء أهمية صدور قرارات معينة. وإذا حاولنا أن نطبق هذه القواعد على حالات بعينها فإنه يمكن لنا أن نضرب أمثلة بارزة.
المثال الأول هو طلب مصر الحصول على قرض من البنك الدولى.
ومن المعروف أن البلاد تمر بأزمة اقتصادية خانقة. غير أن صانع القرار لم يعلن للجماهير بكل وضوح عن أسباب هذه الأزمة.
من المؤكد أن هذه الأزمة هى تراكمات عهود سابقة تراخت فيها الحكومات المختلفة فى اتخاذ تدابير حاسمة للحد منها وإصلاح الوضع الاقتصادى.
هنا كان لابد لصانع القرار أن يقدم للناس عرضا دقيقا للأوضاع الاقتصادية المصرية، ويشير إلى مواطن الخلل فيها ودور الحكومة والمواطن أيضا فى إصلاح هذا الخلل.
ومن المعروف أن الدين الداخلى تجاوز بارتفاعه سقفا عاليا، وكذلك الأمر بالنسبة للدين الخارجى.
وهنا لا بد لصانع القرار أن يشرح الأسباب التى تدعوه للاقتراض الداخلى والخارجى. وهل صحيح أن هناك مئات المصانع قد أغلقت وشرد عمالها، وما هى الأسباب الحقيقية وراء ذلك؟
من ناحية أخرى لابد لصانع القرار أن يشرح للناس الأسباب الكامنة وراء تفضيلاته التنموية. وهل- على سبيل المثال- تكون الأفضلية والأسبقية للمشروعات القومية الكبرى، أم لا بد من الوضع فى الاعتبار المشاريع الصناعية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة القادرة على امتصاص أعداد كبيرة من المتعطلين الذين لا يجدون عملاً؟.
من ناحية أخرى فإنه تقع على عاتق صانع القرار مسئولية كبرى فى مجال استخدام لغة التخطيط حتى يقنع الناس بصواب سياساته الاقتصادية، بمعنى أنه لابد أن يميز فى خطابه بين المدى القصير والمدى المتوسط والمدى الطويل.
والأهمية الكبرى لاستخدام صانع القرار لغة التخطيط هى إقناع الجماهير بأن لديه خطة متكاملة لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتراكمة.
ومن ناحية أخرى هذه اللغة تعطى اليقين للجماهير بأن هناك مكاسب سوف تتحقق لها فى المدى القصير، مما يجعلها أقدر على مواجهة مشكلات الحياة، وكذلك فى المدى المتوسط، وأخيرا فى المدى الطويل والذى ينتظر –على سبيل المثال- أن تتحقق فيه العدالة الاجتماعية التى كانت شعارا أساسيا من شعارات ثورة ٢٥ يناير.
غير أن هناك ميزة كبرى من استخدام لغة التخطيط وهى ألا تصاب الجماهير بالإحباط حين تجد أن عديدا من المشكلات المتراكمة لم تحل، وأسوأ من ذلك أن تظهر مشكلات جديدة لا يشرح صانع القرار أسباب نشوئها ولا الإجراءات الضرورية لمواجهتها.
وهكذا يمكن القول إنه بتطبيق هذه القواعد الأساسية لعملية صنع القرار، سيتبين أن صانع القرار فى مصر فشل فى تطبيقها بصورة فعالة.
والدليل على ذلك صدور قرارات اقتصادية هامة مؤخرا لم يعدّ الرأى العام سلفا لقبولها. وأسوأ من ذلك صدور قرارات اقتصادية فجائية تؤثر فى اقتصادات ومعيشة الملايين من البشر بدون مبرر واضح، وبدون تمهيد كاف للناس.
ولعل المثل الأبرز فى هذا المجال قرار رئيس مجلس الوزراء بإعفاء الدواجن المستوردة من رسوم الجمارك. فما إن صدر القرار حتى قامت ضجة كبرى، ونُشر أن هذا القرار سيصيب فى مقتل الإنتاج المحلى للدواجن وأن هذا القطاع يعمل فيه ثلاثة ملايين عامل، بالإضافة إلى ضياع الملايين من الاستثمارات الوطنية. والسؤال هنا: هل كان مُصدر القرار على اطلاع دقيق بأوضاع الصناعة الوطنية فى هذا المجال؟، وهل كان يدرك أنه بقراره المفاجئ غير المبرر سيضر أبلغ الضرر بالإنتاج المحلى من الدواجن؟، وهل –كما قيل- صدر القرار لصالح بعض كبار المستوردين الذين لا يعنيهم سد احتياجات المواطنين الغذائية، ولكن تراكم أرباحهم بالملايين على حساب الشعب المصرى؟.. كل هذه الأسئلة ترددت بكثرة واضطر رئيس مجلس الوزراء إلى إلغاء القرار.
إن مصر تمر بمرحلة فارقة فى تاريخها لأنها ستخوض فى السنوات القادمة حربا اقتصادية حقيقية لانتشال الاقتصاد المصرى من وهدته، والانطلاق الواسع المدى فى مجال التنمية الشاملة.
وجزء من هذه الحرب القضاء على شبكات الفساد التى تحاصر الشعب، وما قصة فساد صوامع القمح ببعيدة والتى ضاعت على الدولة فيها مليارات الجنيهات.
لا أمل فى التقدم إلا إذا نجحنا فى القضاء على عصابات الفساد.
eyassin@ahram.org.eg