لما كانت «الديمقراطية» إحدى الركائز الأساسية فى بنيان «الدولة المدنية الحديثة»، فقد باتت التعددية السياسية من السمات التى لا تغيب أبدًا عنها، ومن ثم احتلت الأحزاب موقعًا أثيرًا فى كل تجربة وطنية نجحت فى إفراز حياة سياسية صحية، تحمل على عاتقها التعبير بصدق عن كافة الاتجاهات السائدة فى المجتمع، سواء من الناحية السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية.
من هنا، لا تجد على الإطلاق مجتمعًا ديمقراطيًا لا تحظى فيه الأحزاب بموقع مرموق باعتبارها مناط التنمية السياسية الحقيقية، التى لا ينبغى أن تغيب أو تتخلف عن اللحاق بكل محاور التنمية الأخرى، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية.
وفى التجربة المصرية، نلاحظ أن الأحزاب عانت كثيرًا جراء قطع السُبل أمامها منذ عام ١٩٥٢، الأمر الذى حال بينها وبين تحقيق أرضية متينة فى الثقافة الشعبية. كما نلاحظ أن كافة المحاولات التى قامت بها الأنظمة المتتابعة على استحياء بغرض إضفاء مسحة من الديمقراطية، نلاحظ أنها كانت ترتكن إلى تصدير صورة، غير حقيقية بالطبع، عن انحيازها لفكرة الأحزاب، وحتمية دورها فى المجتمع. الأمر الذى يعكس قناعة حقيقية بأن لا ديمقراطية بغير أحزاب حقيقية. وهو أمر لم تفلح الأنظمة المتعاقبة فى إثبات حُسن نواياها تجاهه، إذ كانت الأحزاب فى منظومة الحكم ما هى إلا ستار لسيطرة تيار بعينه على السلطة، دائمًا هو تيار الرئيس، والحزب الحاكم، وكل الأحزاب من حوله تؤدى أدوارًا سطحية على المسرح السياسى، لا ترقى أبدًا إلى صحيح مفهوم الأحزاب السياسية كما عرفتها المجتمعات التى نجحت فى بلوغ آفاق معتبرة على طريق الديمقراطية.
على خلفية هذا الوضع المتردى ديمقراطيًا، ومن ثم حزبيًا، كانت ثورة يناير المجيدة ٢٠١١، التى أعلنت بوضوح خلو الساحة من أحزاب حقيقية لها قواعدها ومصداقيتها فى الشارع، وبرامجها التى تعبر عن فكرها ومبادئها وأهدافها، وبالتالى خرجت الثورة «يتيمة» لا تدرى من نفسها شيئًا، فكان طبيعيًا أن تسقط فى أيدى الجماعة الإرهابية، صاحبة التنظيم المتين، والأفكار الواضحة أمام أعضائها إلى حد اليقين.
والآن، وبالموجة الثورية التصحيحية فى الثلاثين من يونيو، وبعد أن استقرت الأمور السياسية بعيدًا عن الاستقطاب الدينى، كان لزامًا علينا إجراء مراجعات جادة وصريحة، بموجبها نسحب الأحزاب من حافة الهاوية فى الثقافة المجتمعية، ونعيد لها دورها المتعارف عليه كرافعة مجتمعية، من شأنها التأكيد على صدق التوجهات نحو بناء «دولة مدنية حديثة»، ينهض نظامها السياسى على تعددية سياسية، فى القلب منها تعددية حزبية، مثلما أكد دستور ٢٠١٤ الذى حظى بتأييد كاسح لطالما فاخرنا به، دون أن نخطو بجدية فى سبيل تجسيد مبادئه وقيمه، خاصة فى مجال التعددية السياسية والحزبية، تمامًا مثلما التفت الحكومة، بمساعدة البرلمان، حول ما جاء به الدستور من نسب مئوية محددة لصالح الإنفاق على مجالات التعليم والصحة والبحث العلمى، فكانت «الحلول الوسط» التى طالما أفرغت خطواتنا من مضمونها الحقيقى. وعليه أرى أن علينا الأخذ بالملاحظات التالية:
كون الأحزاب ضعيفة وهشة، ومن ثم أفرزت ممارسات معيبة، لا صلة لها بالعملية الديمقراطية، فذلك أمر لا ينبغى أن يدفعنا إلى مواصلة الهجوم على الأحزاب كفكرة نجحت بالفعل فى المساهمة بفاعلية فى تحقيق نهضة تنموية حقيقية فى كثير من التجارب الدولية الناجحة، باعتبارها السبيل المشروع، الأكثر تنظيمًا، لتحقيق التنمية السياسية، بما تحمله الأخيرة من توسيع المشاركة السياسية، ورفع الوعى العام بالقضايا الأساسية للوطن. ننطلق فى ذلك من قناعة راسخة بأن لا ديمقراطية فى غياب أحزاب حقيقية.
قلنا سابقًا إن عملية التحول الديمقراطى لابد وأن يتبعها انطلاق الطاقات السياسية المختزنة والمعطلة، ومن ثم يحدث الانفجار السياسى، إذ تنشأ الأحزاب بوفرة، ولا شىء فى ذلك يعيب ثورتنا على الإطلاق، ذلك أن فى زحام المشهد طبيعى أن يتسلل إلى الأحزاب رموز فساد نهضت الثورة لتزيلها وتحاكمها! وطبيعى أيضًا أن يصبح العمل الحزبى جاذبًا لما يحمله من أضواء ووجاهة اجتماعية لا يمكن إنكارها، وفى غمار ذلك ليس لنا أن ننكر أن المصالح الشخصية حاضرة دائمًا وبقوة، إن لم تعتلى المشهد فى كثير من الأحزاب. كما أن أحزابًا، غير قليلة، لا تحمل من صحيح مضمونها أى شىء، وذلك أمر لا يمكن تفاديه على الإطلاق. إلا أن كل ذلك لا ينبغى أن نستخدمه لهدم فكرة الحزب السياسى فى الوعى العام، فإن فعلنا، ضربنا العملية السياسية فى مقتل، وأفرغنا خطواتنا نحو التحول الديمقراطى من وجهتها الصحيحة.
معاناة الأحزاب كبيرة من خارجها، مثلما هى عظيمة من الداخل، فكثيرًا ما تعلو أصوات النخبة مطالبة باندماج الأحزاب الصغيرة، أو المتشابهة، أو القريبة فى أفكارها ومناهجها. والواقع أن الأمر على هذا النحو له وجاهته الواضحة، بل ومنطقه السياسى المقبول والضرورى، لكن أصحاب هذا التوجه ينكرون أن تراكمًا ضروريًا لم يحدث بعد لتختمر التجربة الوطنية فى صورتها الأخيرة، يناير/يونيو، ذلك أن الاندماج الحزبى إنما يعلن تغليب المصلحة الوطنية والتغاضى عن كثير من المصالح الشخصية، وهى مرحلة لا بد وأننا فى الطريق إليها وإن طال السفر إليها. ومن ثم علينا أن نعترف أن اختفاء بعض الأحزاب حتمى، وغياب البعض الآخر ماثل بالفعل أمام العيون، ومحاولات اندماج بالفعل أخذت طريقها على استحياء إلى حياتنا الحزبية. لكن الأمر يظل رهنًا برفع شأن العمل الحزبى داخل الثقافة المجتمعية، حتى يسمو بعيدًا عن سُبل المتاجرة والمزايدة. عندئذ ينسحب المنتفعون، إلا قليلًا، لتتقدم نحو الصفوف الأمامية كفاءات وكوادر ربما وجدت فى الابتعاد عن العمل الحزبى كرامة لا يتيحها موقع العمل الحزبى فى ثقافة المجتمع.
الأحزاب نفسها عليها دور كبير فى ضبط أوضاعها على بوصلة المصلحة الوطنية، إذ عليها أن تفرز بالفعل ما يدفع إلى تحسين صورتها الذهنية لدى المواطن. ولعل فيما يواجهه الناس من أزمات متتابعة فى تصريف شئون حياتهم اليومية، ما يقدم فرصًا متتابعة للأحزاب عساها تتخذ منها سُبلًا مشروعة لبناء جسور جديدة بينها وبين الشعب. والحال كذلك لا يتطلب مزايدات بات الشعب خبيرًا بكشفها وتجاهل أصحابها، بل يتطلب الأمر جهدًا حزبيًا واضحًا، بموجبه تُطرح البدائل أمام صانع ومتخذ القرار، وتهيئة الشارع للتعاون مع الدولة فى الظروف الصعبة التى تمر بها باعتبارها مرحلة حتمية تعقبها انفراجة حقيقية وفق ما أسفرت عنه الكثير من التجارب الدولية التى نجحت فى تحقيق معدلات تنموية مرتفعة فى فترات وجيزة. ولن تنجح الأحزاب فى ذلك الأمر ما لم تخرج من قوالبها الجامدة، وتنطلق بأفكار مُبدعة خلاقة لتعبر عن جدارتها بموقع أفضل داخل الثقافة المجتمعية أولًا، ثم فى النظام السياسى ثانيًا.
وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله، وحديث نزيح فيه الستار عن اتساع مفهوم «التعددية السياسية» لما هو أبعد كثيرًا من الأحزاب.