من يتابع طبيعة
التحولات الجذرية التي بدأت تشهدها صناعة الإعلام في العالم المعاصر، وطبيعة
التغيرات والتطورات المتلاحقة التي أصابتها، سيدرك لأول وهلة أن جوهر هذه التحولات
يتمثل في تغيير طبيعة نموذج الاتصال التقليدي القديم، وتغير أنماطه ووسائطه
ووسائله، وتحول المجتمعات المعاصرة -على اختلاف مستوياتها الحضارية- إلى تبني ذلك
النموذج الجديد، الذي تعد تكنولوجيا الاتصال والمعلومات -وتطبيقاتها المختلفة-
اللاعب الرئيسي فيه .
حيث شهد العالم المعاصر منذ منتصف التسعينيات وحتى
الآن تبلور لظاهرة صحافة الشبكات «Networked Journalism»،
وظاهرة الإعلام الجديد بمختلف روافده وتمثلاته، وأصبح نموذج الاتصال التقليدي
القديم القائم على مركزية وسائل الإعلام، وعلى سيادة الرؤية الخطية أحادية الاتجاه
«From One to Many»، من مخلفات الماضي.
وفرضت التطورات التكنولوجية الجديدة، وما صاحبها من
تحولات في البيئة الاتصالية الجديدة نموذجا آخر «From Many to Many»، ووسائل أخرى بديلة، تمتلك من المقومات والإمكانات ما جعلها
تتجاوز وسائل الإعلام التقليدية المعروفة، كالصحافة المطبوعة والقنوات الإذاعية
والتليفزيونية الأرضية، بل ووسائل الاتصال الأخرى كالكتاب المطبوع ووسائط تخزين
الأغاني والموسيقى والمواد السمعية والبصرية المختلفة.
ورغم اتساع مساحة الاتفاق بين الباحثين والعاملين في
مجال الإعلام الرقمي الجديد حول أهمية هذه النقلة النوعية التي شهدتها الحضارة
الإنسانية المعاصرة وقيمتها، وما أسهمت به من تطورات ملحوظة في مجال صناعة الإعلام
عموما، والصحافة الرقمية والإلكترونية على وجه الخصوص، إلا أن المتابع لحالة
النقاش والجدل الدائر في الأوساط الأكاديمية والمهنية حول الكثير من القضايا
الخلافية التي ترتبط بظاهرة صحافة الشبكات والإعلام الإلكتروني، سيدرك في المقابل
دون جهد أن ثمة قضايا كثيرة وتساؤلات كثيرة ما زالت تحتاج إلى إجابة واضحة ومحددة
من القائمين على صناعة هذا النمط من الإعلام ومن العاملين فيه، وتتمثل أهم هذه
التساؤلات المطروحة فيما يلي:
- هل استطاع الإعلام
الإليكتروني وصحافة الشبكات والإعلام الجديد عموما أن يقدم نمطا مهنيا احترافيا
متمايزا يجاوز نمط وسائل الإعلام التقليدية؟
- هل استطاع القائمون على
صناعة الإعلام الجديد والعاملون فيه أن يؤسسوا لأنفسهم أطرا أخلاقية تضبط العلاقة
بينهم وبين الجمهور والمستخدمين، وبينهم وبين المجتمع؟
- هل استطاع صناع الإعلام
الجديد وملاكه والمستثمرون فيه أن يقدموا نموذجا إداريا واقتصاديا مستقلا ومفارقا
للأساليب والنماذج التقليدية التي ورثوها من الإعلام القديم؟
وغيرها.. وغيرها، من تساؤلات تكتظ بها الدراسات
المعنية بدراسة واقع هذه الظاهرة وهذه الصناعة ومستقبلها.
في الحقيقة لا أحد
يستطيع أن ينكر أن تجربة الإعلام الجديد وصحافة الشبكات على حداثتها، قد شكلت
تطورا نوعيا فارقا على مستوى الصناعة، من حيث قدرتها على تقديم خدمات صحفية نوعية
متميزة، ومن حيث قدرتها على صناعة وإنتاج محتوى إعلامي متكامل، وكذلك من حيث
قدرتها على تقوية الروابط بين الجمهور والمستخدمين وبين هذا النمط من الإعلام
الجديد، وكذلك من حيث قدرتها على تحقيق مكانة سوقية تنافسية، أصبحت تتجاوز صناعة
الإعلام التقليدي ووسائله التي ما زالت تتمتع بمقومات وعناصر استثمار ضخمة، وتاريخ
ممتد وأقدام راسخة في السوق، وإذا ما أضفنا إلى ذلك هذا التطور والنقلة النوعية
الفريدة التي حققها هذا الإعلام في مجال تدعيم ديمقراطية الاتصال، وتفعيل مشاركة
المواطنين في إنتاج المحتوى الإعلامي وفي تقويمه وتطويره، وكذلك في المشاركة في
صنع السياسات والقرارات التحريرية ولو بدرجة ما، سندرك بلا شك ما أصبح لا يحتاج
حديثا إضافيا، لكن السؤال المثار في المقابل هل استطاعت صحافة الشبكات والإعلام الإليكتروني
الجديد أن صنع لنفسه أطرا هنية ومعيارية وأخلاقية حاكمة.
الحقيقة رغم وجود كثير من المحاولات التي بذلت من
اتحادات وجمعيات وروابط الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام الإليكتروني، إضافة
إلى ما قدمه كثير من الباحثين والمختصين في هذا المجال من رؤى وتصورات لا يمكن
الاختلاف عليها، إلا أن تحليل واقع الممارسة العملية لظاهرة الإعلام الجديد كله
يفضي بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الإعلام ما زال يعمل في إطار تحكمه معايير
وضوابط مهنية وأخلاقية قوية ومتماسكة، وأنه نتيجة تجاوزه لهذه المعايير المهنية
والأخلاقية بدأ يفقد مع مرور الوقت جزءا من مصداقيته وألقه الذي صاحب ظهوره وتطوره،
للدرجة التي جعلت كثير من النقاد والمحللين يحذرون من كون هذه الظاهرة الجديدة
أصبحت تعيد إنتاج ممارسات صناعة الإعلام التقليدي، ولعل في نظرة سريعة على حجم
السرقات المهنية والاختلافات والفبركات المهنية، وكذلك ظواهر مثل الابتزاز، والجنوح
لنمط صحافة الإثارة والنميمة، وتغليب قيم السبق واعتبارات الانفراد والتفوق على
قيم الصدق والمصداقية، ما يؤكد أن هذه الصناعة بحاجة إلى إعادة مراجعة، وبحاجة إلى
أن تخلق لنفسها أطرها ومعاييرها المهنية والأخلاقية الحاكمة، وإلا فإنها مع مرور
الوقت سوف تفقد جمهورها ومعلنيها، وربما وجودها ذاته، في إطار منافستها الشرسة مع
محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي .
أما إذا انتقلنا إلى الحديث عن طبيعة النموذج
الاقتصادي والإداري الذي التي تتبناه صحافة الشبكات ووسائل الإعلام الجديد، فإننا
سنصل دون شك إلى نتيجة مهمة مؤداها أن ما تحقق في هذا المضمار أيضا ما زال دون
المستوى المأمول، صحيح أن معظم الدراسات الحديثة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك على
نمو معدلات الأداء الاقتصادي لصحافة الشبكات ولوسائل الإعلام الجديد عموما، من خلال
مؤشرات واضحة لا تخطئها عين؛ حيث تزايدت خلال السنوات الأخيرة معدلات الاستثمار
ورؤوس الأموال المساهمة في هذه الصناعة، كما تزايدت إيرادات وحجم العائدات
الإعلانية بها، بل إن عائدات الاشتراكات مقابل الحصول على الخدمات الصحفية، وعائدات
تسويق التطبيقات اللوحية الإخبارية وغيرها قد زادت في كثير من التجارب الصحفية
الغربية والأمريكية، إلا أنه رغم ذلك فإن مقارنة حجم الإيرادات ومعدلات الربحية
والنمو التي بلغت 23% وفقا لبعض التقديرات من إجمالي استثمارات هذه الصناعة، مقارنة
بما تحققه شبكات التواصل الاجتماعي من عائدات ومعدلات ربحية، يفضي إلى نتائج مؤكدة
أن هذه الصناعة، وهذا الإعلام الجديد قد بدأ يعاني -على حداثته- نفس المعاناة التي
تعانيها صناعة الصحافة التقليدية وإن كان بدرجة أقل منها، وأن هذه الصناعة تحتاج
أيضا إلى إعادة مراجعة وتطوير أساليبها الإدارية والاقتصادية التي تتبناها، فصحيح
أن كثيرا من هذه التجارب استطاعت أن تخلق لنفسها نماذج إدارية واقتصادية متطورة، تستند
إلى مفاهيم ونظريات التسويق والإدارة الحديثة، مثل مداخل تجزئة السوق «Mass
Customization»، ومداخل المنافسة السوقية، ومداخل
الخدمات الموجهة باحتياجات الجمهور «Market –Driven Journalism»،
إلا أنها ما زالت جميعها في مراحل التجريب، وما زالت معظم هذه الصحف والوسائل
الإعلامية الجديدة تنتقل من نموذج إلى نموذج تحت ضغوط المنافسة والرغبة في النجاح
السريع، والرغبة في تحقيق مكانة سوقية معتبرة، وما زالت كثير من هذه المواقع
والصحف تفتقر إلى هذا النمط الجديد من أنماط المديرين والعاملين الذين لديهم من
الثقافة والمؤهلات والخبرات الفنية والإدارية والسوقية والخبرات المهنية
والتنظيمية، ما يمكنهم من ترسيخ دعائم هذه الصناعة المهمة وتعزيز مكانتها وقدرتها
على الاستمرارية والصمود، وهو أيضا ما يحتاج مراجعة ووقفة جادة من ملاك هذه
المشروعات والقائمين عليها إذا ما أرادوا أن يحتفظوا لأنفسهم بمكانة حقيقية في
المستقبل المتوسط والبعيد .
للتواصل
د. محرز حسين غالي
أستاذ الصحافة المساعد بجامعة القاهرة
البريد الإلكتروني:-
Mehrezhusien@yahoo.com