«الرقابة» تعبير قد يراه البعض سيئ السمعة ويتردد الكثيرون فى استخدامه خاصة فىإدارة مجال الصحافة والإعلام ويرجع ذلك إلى أن مفهوم الرقابة ارتبط بفكر «أحادى النظرة» عندما كانت الديمقراطية مجرد شكل ديكورى لتجميل أى نظام سياسى، وارتبط المفهوم أيضا بادعاءات تكميم الأفواه أو محاصرة حرية الرأى.
من هنا نكتشف أن المفهوم انزلق إلى تفسيرات لها خلفيات سياسية وأمنية، نقول بصراحة رغم أهميتها من وجهة نظر الحفاظ على الاستقرار والنظام فى المجتمع، إلا انها ليست المقصودة فيما نقوم بطرحه هنا، وبالتالى إذا حاولنا لصقها بالخطاب الإعلامى سنفقد بوصلة الاهتداء إلى كلمة سواء تساعدنا على تطوير الإعلام وما يجعله يؤثر فيما نسميه التربية الإعلامية، حيث الإعلام هو فى الحقيقة مرآة عاكسة لقيم وتوجهات الرأى العام.
وفى الوقت نفسه لا يمكن إغفال دور الإعلام التوعوى أو التعليمى، وفى كل الأحوال يحتاج إلى نوع من الرقابة التى تعنى مفهوما مختلفا عما أسلفنا، ويمكن القول إنها رقابة توجه نحو الالتزام بالمسار الصحيح بما يشكل نظاما إعلاميا يلتزم به الجميع سواء كان المقصود هنا صانع الرسالة الإعلامية أو متلقيها ولهذا أعجب من قول البعض الذى ينادى بأنه يجب أن يتحرر الإعلام من أى توجيه، وفى اعتقادى أن هذا الرأى يمثل نوعا من الطوباوية التى تبحث عن المدينة الفاضلة، وهو أمر غير موجود على أرض الواقع، فلا يوجد فى عالمنا إعلام «مهنى» غير موجه وإذا وجد إعلام «غير موجه» سنجده يسقط فى مستنقع من الفوضى والانفلات ويبتعد تدريجيا عن الأداء المهنى.
وقد تأخذ الرقابة المهنية شكل التوجيه، أو دعونا نقول الرقابة الاحترافية التى ليس لها علاقة بالرقابة «السياسية والأمنية»، ومن بين أدوات هذه الرقابة دليل السياسة التحريرية، وهو نوع من الرقابة على الأداء من حيث درجة الإجادة والالتزام بقواعد مهنة الإعلام وكتاب القيم التحريرية وهو ما يسمى STYLE BOOK الذى يضع بين يدى الإعلامى أو الصحفى قائمة من القيم المهنية فى مقدمتها الدقة والموضوعية والتوازن والتنوع والمحاسبة والمصلحة العامة، ونرى أنه توجيه إيجابى ومهنى ويعتبر غيابه شكلا من أشكال العشوائية فى العمل الإعلامى.
وينطوى الانزلاق إلى مستنقع العشوائية على مخاطر جمة تؤثر على المصلحة العامة خاصة أن الإعلام هو فى الحقيقة وسيلة للحفاظ على الأمن القومى أو الوطنى، كما أن وجود ميثاق شرف إعلامى نوع من الرقابة تبدأ بما نسميه الرقابة الذاتية أو المحاسبة الضابطة للأداء، ثم نصل إلى اتفاق مكتوب يمكننا أن نطلق عليه مسودة سلوك لأخلاقيات المهنة يلتزم به كل الموقعين عليه.
إذن نتفق على أن تعبير الرقابة أو التوجيه يختلف عما رسخ فى الأذهان وله معنى يساعد الإعلاميين أيا كان الوسط الذى يعملون فيه على ضمان الاحترافية فى الأداء الإعلامى وهو ما نقصده فى هذا المقام.
ومن التجارب الفكرية الرائدة والحديثة أن تكون هناك رقابة «غير حكومية» يمكن تسميتها «الرقابة المجتمعية» على الإعلام أى رقابة المجتمع المدنى على الإعلام من خلال مراكز تفكير THINK TANKS تضم خبراء وأساتذة إعلام ينتظمون فى عمل تطوعى لا يسعون من ورائه فى الحصول على ربح أو عائد مادى وتنحصر مهمتهم فى تقديم حلول للمشاكل التى تعترض أو تؤثر على أداء المؤسسات الإعلامية، ويكرسون تأكيد منظومة القيم الغائبة عن ممارسة مهنة الإعلام وفى مقدمتها الدقة والتوازن الموضوعى وإعلاء المصلحة العامة وتدريب الإعلامى على كيفية توظيف قيمة المحاسبة الذاتية عند ممارسته عمله سواء كان كاتبا أو محررا أو مراسلا أو معدا أو مذيعا أو مقدما للبرامج.
مما تقدم يمكن القول إن رقابة المجتمع المدنى على الإعلام تشارك فى ترسيخ أهمية التدريب فى العمل الإعلامى، الذى يعتبر أداة التجويد فى المشهد الإعلامى، وغياب التدريب يؤدى بالتبعية إلى تدنى الأداء المهنى الأمر الذى ينتج عنه هبوط مستوى نسبة المشاهدة والاستماع للبرامج المنتشرة بالقنوات الفضائية أو الشبكات الإذاعية.
إن الرقابة المهنية من قبل مؤسسات المجتمع المدنى على وسائل الإعلام تبدو مقبولة لكونها بعيدة عن التدخل الحكومى بما يحقق قدرا كبيرا من الاستقلال فى الصحافة والإعلام، ويفتح مجالا للمناقشة وتبادل الأفكار والتفاعل وصولا إلى مستوى من التكامل الفكرى الذى يمهد نهجا، أو يرسم إطارا يجمع الجميع على أرضية مشتركة من القيم المهنية.
وقد شهدت مصر فى الآونة الأخيرة ظهور تجربة جديدة وناجحة تمثلت فى «المنتدى المصرى للإعلام» وهو أحد منظمات المجتمع المدنى، حيث لا علاقة للمنتدى بأى مؤسسة حكومية وتنحصر مهمته الأساسية فى كل ما عرضناه من تأصيل لمفهوم الرقابة المهنية على الإعلام، أو بعبارة أخرى هدف المنتدى ضمان تحقيق الرقابة المجتمعية على الإعلام من خلال تطبيق آليات فكرية تنقذ الإعلام من حالته الراهنة، ويضم المنتدى المصرى للإعلام شخصيات عامة فى كل مجالات الثقافة والإعلام والفنون بمن فيهم خبراء لهم تاريخ وباع كبير فى الإعلام وأساتذة أكاديميين بكليات الإعلام.
ويساهم المنتدى المصرى للإعلام فى حل مشكلات الأداء بصياغة دليل عمل أو مانوال يوضح فى جانب منه أكواد الأداء الإعلامى وبما يساعد على انتشال الإعلام من أزماته، ويقدم النموذج خاصة فيما يطلق عليه إعلام «الخدمة العامة» لمن يريد من المؤسسات الإعلامية الالتزام به، خلاصة القول إن هذه التجربة تستحق التوقف أمامها ودراسة نتائجها حتى يمكن تكرارها وتعميمها.