ذكرنا فى المقالات الثلاثة السابقة أنه لم يكن اختراق الأمن القومى فى أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، ولا الانهيار المالى الذى كاد يلحق بالإمبراطورية الأمريكية خلال الأزمة المالية فى العام ٢٠٠٨، وسوء الإدارة الأمريكية للصراعات الكُبرى فى العالم، ولا المواجهة مع الإرهاب فى عهد أوباما هى التى أدت إلى انزوائها وذبولها، بل إن انتخاب دونالد ترامب سوف يؤدى إلى مزيد من الأفول والتراجع لهذه الإمبراطورية من خلال الاندثار السريع والملحوظ فى القيم الأمريكية «American Values»، وعلى رأسها الديمقراطية التى شهدت موتًا سريريًا غير مسبوق فى الولايات المتحدة، سواء من أنصار ترامب أو ترامب نفسه، أو من أنصار هيلارى كلينتون، بل أدى إلى إنعاش الدعوة إلى انفصال إحدى الولايات المعارضة لفوز ترامب عن الولايات المتحدة وهى ولاية كاليفورنيا.
والتهديد المهم الذى يمثله فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة هو أن صعوده إلى الحكم بخطاب شعبوى أدى إلى إيقاظ النعرات العرقية والدينية والقومية ليس فى الولايات المتحدة وحدها بل على مستوى العالم. إن هذا الخطاب سوف يؤدى إلى صعود اليمين المتطرف فى أوروبا، وهو ما سوف يؤدى إلى انهيار العولمة وزيادة التوجه نحو القومية والشئون الداخلية ودخول العالم فى مرحلة غير مسبوقة من الاضطراب.
فقد أعطت نتائج الاستفتاء البريطانى للخروج من الاتحاد الأوروبى الصيف الماضى إشارة مهمّة إلى بدء تحوّل كبير فى العالم، وفى الديمقراطيات الغربية خصوصًا، ما لبث فوز المرشح الجمهورى دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية أن أكّده، وهو الصعود الملحوظ لليمين الشعبوي، الأمر الذى يطرح مخاطر عديدة على النظام الديمقراطى نفسه، وليس فقط على الحريات الليبرالية والمكاسب الاجتماعية الكبيرة التى حققها للمجتمعات الغربية.
وثمة دلائل عديدة تشير إلى أن هذه الموجة قد تكون مؤهلة لاكتساح أوروبا التى شهدت مؤخرًا استفتاء فى إيطاليا حول إصلاحات دستورية تعارضها أحزاب المعارضة، وبينها حزب «الخمسة نجوم» الجديد الذى يركب موجة الشعبوية الأوروبية نفسها، وهناك أوضاع مشابهة فى الانتخابات المقبلة فى الدنمارك وهولندا وألمانيا. يضاف إلى ذلك اختيار اليمين الفرنسى المحافظ لفرانسوا فيون، المرشح الأقرب لليمين المتطرف الذى خاض معركة طاحنة ضد المرشح الأقل تطرفًا، آلان جوبيه، وكانت إحدى الطرق المستخدمة ضده هى تحوير اسمه إلى «الله جوبيه» فى تعريضٍ كاشف بتحالفه مع المسلمين الفرنسيين، واللافت أن فيون سيتواجه مع مرشحة أكثر تطرّفًا منه، هى جان مارى لوبان التى وعدت هى أيضًا بإجراء استفتاء عام حول العضوية فى الاتحاد الأوروبي.
وتستخدم هذه التيارات اليمينية الشعبوية المصاعب الاقتصادية التى تعانيها شعوبها والمناخ الذى خلقته موجة الهجرة الكبيرة من العالم العربى والإسلامى لتقديم حلول انتهازية سريعة تقوم على معاداة الآخرين، واستعادة القيم المحافظة، وهى سياسات سبق لها أن أدّت إلى حربين عالميتين وكوارث سياسية واجتماعية، لكن أغرب ما فى هذه الظاهرة هى أنها تجد الآن تأييدًا من القطبين المتخاصمين السابقين، الولايات المتحدة وروسيا، تحت قيادتيْ ترامب وبوتين، وهو ما قد يجعلها أكثر خطورة بكثير، ليس على العرب والمسلمين فحسب، بل على العالم بأكمله، إن عام ٢٠١٧ سيكون صعبًا وعصيبًا ومضطربًا.
وبعد مرور أيام قليلة من فوز دونالد ترامب، وتحطيمه كل التوقعات بالخسارة، أصبحت هناك مخاوف كثيرة بين الأوساط الفرنسية المختلفة، فبهذا المنطق يمكن أن تفوز المرشحة المحتملة لرئاسة فرنسا «مارى لوبان» زعيمة حزب اليمين المتطرف، التى يُعرف عنها قراراتها المتعصبة والعنصرية التى تثير مخاوف المسلمين والمسلمات والمهاجرين الذين يلجأون إلى فرنسا.
وقد لاحظ المحللون التأييد الشديد من قبل مارى لوبان لترامب، حيث كانت من أول المهنئين له، إضافة إلى أنها كانت تدعمه من قبل خوضه سباق الرئاسة، وكان ذلك التأييد الشديد عامل قلق بالنسبة للوسط الفرنسى الذى أصبح من الممكن أن ترأسه «لوبان»، كما تشهد فرنسا اليوم حالة من عدم الرضا من قبل الأحزاب الأخرى، وعلى رأسها الحزب الاشتراكى الحاكم، حيث أعلن الرئيس الفرنسى أولاند عقب الإعلان عن فوز ترامب أن الانتخابات الأمريكية تدشن فترة من عدم اليقين، وأن فرنسا ستبقى على محادثات تتسم بالحذر والصراحة مع الإدارة الجديدة بشأن المسائل الدولية.
وأجمع المحللون على أن فوز ترامب يدق ناقوس الخطر فى فرنسا، حيث إن فرضية وصول زعيمة اليمين المتطرف مارى لوبان إلى الرئاسة أصبحت ممكنة، وهو ما عبرت عنه مختلف التيارات السياسية الفرنسية، وكانت على رأسهم إليزابيث جيجو وزيرة العدل السابقة التى قالت فى لقاء صحفى جرى معها إن الدرس الذى يمكن استلهامه من الانتخابات الرئاسية الأمريكية هى أن كل ما يبدو مستحيلًا يمكن أن يحدث على أرض الواقع. أما جون بيير رافاران، رئيس الوزراء السابق، فقد قال: «بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبى يأتى فوز ترامب كدليل إضافى على أن الجدار العازل الذى كان يقيمه العقل والمنطق فى مواجهة الشعبوية انهار، لذا يجب أن نحتاط، لأن مارى لوبان قد تفوز فعلًا بالرئاسة فى فرنسا».
إن فوز ترامب يمثل منصة إطلاق لصاروخ فرنسى يدعى مارى لوبان، يحذر الذين يريدون استعمال لوبان كفزاعة لتخويف الناخبين بأنهم قد يستفيقون فى مايو المقبل على صدمة مماثلة لصدمة فوز ترامب اليوم، لأن حظوظ فوز لوبان بالرئاسة باتت فعلية.
والجدير بالذكر، أن ترامب ولوبان لديهما تشابه كبير من ناحية رؤيتهما حول العديد من القضايا، وأهمها قضية الهجرة، فلوبان تتخذ مواقف معادية إزاء المهاجرين، وتدعو إلى إعادة السيطرة على الحدود الفرنسية والخروج من منطقة شنجن، أما ترامب فيدعو إلى إغلاق الحدود أمام المهاجرين المسلمين، وذلك عقب الاعتداءات الإرهابية التى تعرضت لها فرنسا، كما تعهد ببناء جدار على طول الحدود الأمريكية المكسيكية فى حال وصوله إلى البيت الأبيض، متهمًا المكسيكيين بأنهم من مهربى المخدرات والمجرمين والمغتصبين. وكذلك تتشابه مواقف ترامب ولوبان فى موقفهما تجاه روسيا، وخاصة إزاء الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وتدعو دائما إلى ضرورة التقرب من روسيا والعمل معها لحل العديد من الملفات.
إن العالم سيدخل مرحلة غير مسبوقة من الاضطراب قد تؤدى إلى إعادة رسم خريطة جديدة للقوى العالمية، قد يكون من نتاجها اختفاء الإمبراطورية الأمريكية إلى الأبد، وظهور إمبراطوريات جديدة.
اقتباس: فوز ترامب يدق ناقوس الخطر فى فرنسا، حيث إن فرضية وصول زعيمة اليمين المتطرف مارى لوبان إلى الرئاسة أصبحت ممكنة، وهو ما عبرت عنه مختلف التيارات السياسية الفرنسية.