وبعد أن تحدثنا عن فرح أنطون السياسى، نأتى إلى «فرح» المفكر لنكتشف أنه فى مجال الفكر والفلسفة وعلوم الاجتماع والأديان كان أكثر تألقًا من أى مجال آخر. وعندما نأتى إلى الفكر نأتى إليه عبر مجالين، مجلة الجامعة، وحواره المرير جدًا والراقى جدًا مع الإمام محمد عبده، ونبدأ بالجامعة.
فى عام ١٨٨٩ أصدر فرح مجلة «الجامعة العثمانية» مستهدفا أن يخاطب الشعوب التى تحكمها الخلافة العثمانية، ثم وبعد فترة وجيزة اكتفى باسم الجامعة، يقول مارون عبود فى «جدد وقدماء» إنه «استهدف على صفحاتها دعوة شعوب الشرق التى تحكمها الدولة العثمانية للعمل المشترك ضد الغرب الاستعماري».
وعندما سافر فرح صحبه زوجته روز وصهره نيقولا إلى أمريكا أصدروا «الجامعات» واحدة يومية وثانية أسبوعية وثالثة شهرية. وكانت الجامعة فى كل أطوارها تجربة شديدة الصعوبة لأنه اضطر إلى أن يكتب فى موضوعات متعددة ومتنوعة وفى كل الأحوال عميقة وتحتاج إلى دراسة وقراءة وبحث، وهو يعتبر التنوع ضرورة فيقول «إن الجرائد والمجلات فى الشرق مضطرة إلى تنويع أبحاثها تبعًا لأذواق قرائها ولو انفردت كل واحدة منها بمادة لما قامت لها قائمة، فالتبعة إذن واقعة بالأكثر على الجمهور إذ ليس بين قرائه من يطلبون مادة واحدة».
(الجامعة - السنة الرابعة - ١٩٠٣)، لكننا يجب أن نلاحظ عندما يتطرق إلى بحث عن فيلسوف أو مفكر لا يقدم له أى تأييد مجانى، بل ربما أكد من اعتراضه عليه. فمثلا تحدث فرح كثيرًا عن نيتشه بل وتحدث عبر أبطال رواياته عنه لكنه ما لبث أن قال شعرًا:
هذا كلام نِيـيـتشَ أن نِيـيـتشَ كان / مقدم المعوج والمناد
فى زعم بعض الناس أما مذهبي / فيه فأبقيه إلى ميعاد
لكن فرح قد تأثر كثيرًا جدًا بآراء الفيلسوف الفرنسى الشهير، رينان، وهو يؤكد دومًا أن رينان لم يكن منحازًا لفكرة ما أو لحزب ما، ولو سأله سائل ما حزبك؟ لأجابه حزبى البشر كلهم لأننى أخ لهم جميعًا، لا لفريق منهم، ففكره واسع رحب يستطيع فهم كل ما فى هذه المتناقضات من الجمال والحقائق فيذكر محاسنها ومساوئها باستقلال تام وإنصاف كامل كأنه واقف أمام الدنيوية الأخيرة، ويتحدث فرح عن أوضاع الشرق فيقول إن صحفه ومفكريه كتبوا كتابات متناقضة متضاربة أصبحت خليطًا من جميع المذاهب فى الكرة الأرضية فنرى فيها مذاهب سبنسر وكانت وماركس وداروين وتوما وأفلاطون وأرسطو وشوبنهور ونيتشه وزولا وهوجو تجدها متجاورة متشابكة بسبب عدم وضوح المبادئ بعد لأبناء الشرق.
ورغم أن فرح قد تمايز محددًا هدفه وهو الدفاع عن الاشتراكية، فإنه ظل معجبا برينان فيقول عن تساهله مع مختلف الأفكار والآراء «وهذا معنى قولنا عنه فى صدر الكلام أنه مثال الفيلسوف الكامل» (الجامعة - السنة الرابعة) لكننا لا يمكن أن نغفل التطابق بين فرح ورينان فى أن كليهما صاغ أفكاره وأكثرها حدة بأسلوب رومانسي.
ففيما أسماه فرح صلاة رينان (نلاحظ أن البعض سمى مخاطبة فرح لشلالات نياجرا بأنها صلاة فرح) قال رينان مخاطبًا آلهة العقل والحكمة والحرية «إنك تعلمين كم صارت خدمتك صعبة فى الأرض، فإن كل استقامة ذهبت منها، ولم يبق فى العالم جمهوريات مؤلفة من أناس أحرار، بل كل ما فيه ملوك خرجوا من دم ثقيل، ولو وقع نظرك عليهم لضحكت منهم، لقد تكونت من كل الأخطاء والدنايا عصبة طوقت العالم بلفائف من رصاص تكاد تخنق النفوس، وحتى الذين هم أنفسهم عقلاء ويخدمونك يستحقون شفقتك»، وينقل عن رينان حديثا عن الديمقراطية والعدل باعتبارهما السبيل الوحيد لسعادة البشر ويقول «أنت وحدك فتية طاهرة نقية أيتها العذراء الجميلة، أنت وحدك قوية يا آلهة النصر أنت وحدك تحفظين المدن وتحرسينها، معك كل ما يلزمك من القوة، ولكن غرضك الوحيد هو السلام.. يا أيتها الديمقراطية التى مبدأها الأساسى أن كل خير هو آت من الشعب، وأن كل مكان ليس فيه شعب يوحى إلى النفوس أفكارًا عظيمة، فإنه ليس فيه شيء.. علمينا كيف نستخرج الماس من الجموع الجاهلة، اجعلينى أقاوم ارتيابى الذى يجعلنى أشك فى الشعب، وهوسى الذى يمنعنى من الرضا بحكم العقل كلما حكم العقل حكمًا قاطعًا، فيا مثال الكمال أننى أفضل أن أكون الأخير فى مملكتك على أن أكون الأول فى سواها، واعلمى أننى سأوقف نفسى على خدمتك وأربط روحى فى هيكلك، سأسلخ من قلبى كل شيء لا يكون عقلا، فساعدينى أيتها الآلهة وانقذينى أننى مضطر إلى أن أغير عادات عقلية كثيرة، وأن أنبذ تذكارات جميلة، لكنى غير واثق من نفسى، فأنا قد أبطأت فى معرفتك يا ذات الجمال الكامل.. أنا أخشى أن يعاودنى ضعفي».
هذه الكلمات تشبه تمامًا ما قاله فرح.. حتى ليخيل إلينا أن فرح نقل عنها.. فإذا كان رينان هو فيلسوف أوروبا الرومانسى فإن فرح هو فيلسوف الشرق الرومانسى أيضا.
ونواصل.