يبدو أن «النهايات» دومًا تقودنا إلى «البدايات»، فقد نسِيَت «نجوى» أن تَسترِد يَدها مرة أخرى من دِفْء يَدِه فى مشهد النهاية حين قام «يحيى» بتوصيلها إلى «محطة مصر»، ليعود بها القطار إلى حيث أتت، وقد تبدل شىء ما بداخلها، كانت تبحث عنه، ووجدته.
هذا هو «الحلم الجميل» الذى يمد يده إلينا عبر سور الوجود اللامحسوس فى فيلم «فى شقة مصر الجديدة»، وهو يجسد فكرة «الأسطورة»، التى تسكن منتصف المساحة بين الواقع والخيال، وهو إبداع مشترك للمؤلفة المتفردة «وسام سليمان» وزوجها المخرج المُلهَم «محمد خان».
هو ما دفع «نجوى» مدرسة الموسيقى بمدرسة «الراهبات» بالمنيا، أن تنتهز فرصة مجيئها إلى القاهرة فى رحلة مع تلميذاتها؛ لتبحث عن معلمتها وصديقتها «أبلة تهانى»، التى علمتها الموسيقى والحياة، لتكتشف غيابها، واختفاءها فى ظروف غامضة، عندما تلتقى بالساكن الجديد «يحيى»، وهو موظف فى سوق المال المصرية.
عَبْر عدة مشاهد متناغمة، مغلفة بخفة دم، دون تكلف، تتصاعد العلاقة بينهما، أو بين عالمين متناقضين تمامًا؛ عالم الخيال والرومانسية المتحرك، الذى تعلمت «نجوى» مفرداته من معلمتها، والذى صمد فى مواجهة مجتمع مغلق، صارم، وعالم المادية العملية المتجمد، الذى يفتح أبوابه للمتناقضات كافة، والذى تعلم «يحيى» مفرداته من قسوة صفعات البشر، وانتكاسات الوطن، ومؤشرات البورصة، وخِدْر ابتلاع لذة الجنس وشكولاتة الجسد له.
لعبت الصدفة «المقصودة» و«الموضوعية»، التى تدفع صاحبها إلى الاصطدام بها، مُبَاغِتة، وبصورة غير مألوفة، دور البطل الحقيقى، الذى قاد كليهما لعدة لقاءات مذهلة، امتزج فيها الحلم بالحقيقة، ونجحت لغة السينما الواعية فى تهيئة أجوائها الشاعرية.
حررت إيشارب «نجوى» من يدها فى مشهد «القطار» فى بداية الفيلم، وبعثت الحياة فى كراكيب «أبلة تهانى»؛ دبلتها المهجورة، البيانو القديم، كراسات الموسيقى، قطع الأثاث التى تراكم فوقها التراب، لدرجة أزعجت «يحيى»؛ لأنها تمتلئ بروح صاحبتها، وتعبر عن شخصيتها، وفلسفتها فى الحياة، ودفعته إلى قراءة خطابات تلميذتها لها خلال عام كامل.
أطلقت اسم «أبلة حياة» على مديرة بيت «المغتربات»، ذات القلب المتجدد تجاه طالباتها، رغم كل الأزمات التى تحيطهن، واسم «عيد ميلاد» على سائق التاكسى المسيحى، الشهم، الذى ساعد «نجوى»، دون سابق معرفة، وبلا أدنى مقابل؛ ليُلَمِّح إلى «ميلاد» حب جديد، واسم «فجر» و«شروق» على ابنتيه اللتين يعكف على تربيتهما، رافضًا الزواج مرة أخرى، ليُشير إلى «ترعرع» بذرة الحب، و«ازدهارها».
جعلت الجار العجوز «شفيق» يحيا سعيدًا بذكرى وهج تجربة الحب الأصدق فى حياته، رغم زواجه من أخرى، وحولت «محطة مصر» إلى مهد وثير لمولود جديد، وسط مشاعر ود متبادلة بين الأب والأم؛ كى لا تلحق «نجوى» بقطارها فجرت السعادة الغامرة فى قلب زميلتها التى حاولت الانتحار فى السابق؛ لعودة حبيبها الذى هجرها، وجعلت «نجوى» تسمع إهداء «أبلة تهانى» فى برنامج «ما يطلبه المستمعون»، ثم تسمع أغنية «يا مسافر وحدك وفايتنى» فى اللحظة التى تقرر فيها الرحيل؛ كـى تجبرها على التوقف، ثم تتسبب فى إتلاف محمول «يحيى»؛ كى تخلق مبررًا للقائهما مرة أخرى.
أوقدت شعلة الحب فى قلبيهما رغم بعد المسافات، حينما جعلت اللحظة التى تنصت فيها «نجوى» إلى أغنية «ياى سحر عيونه، ونظراته» لنانسى عجرم، هى نفس اللحظة التى ينصت فيها «يحيى» إلى أغنية «بحب جديد، وقلبى سعيد» لكارم محمود، التى يغنيها عامل «البياض»، الذى يعمل فى إحدى شقق العمارة.
أرسلت خطابًا من «أبلة تهانى» إلى تلميذتها، تقول فيه: إن الانتظار دومًا له جدوى، وإن البهجة دومًا تبحث عنا، كما نبحث عنها، بعد أن وجدت أخيرًا رجل حياتها، ثم أوجدت فى النهاية موكبًا للعرس أثناء قيام «يحيى» بتوصيل «نجوى» لقطار المنيا.
إذن، لم يكن البحث عن «أبلة تهانى»، سوى بحث فى العمق؛ عن «المعنى»، عن «الذات»، نراه بوضوح فى مشهد إصرار «نجوى» على شراء القطع الأصلية عند تصليح محمول «يحيى»؛ لأنها تبحث عن الجوهر فى الحب.
نتوحد مع «يحيى» حين يتحدث عن نفسه فى البرنامج الإذاعى «همسات حائرة»، لينهار فجأة قناع «البرود»، الذى يختفى وراءه دائمًا، لينتهى به الأمر، وهو يبكى فى نهاية مكالمته مع المذيعة، لندرك أن لا مبالاته، واندفاعاته، هى مجرد ستار، يخبئ به معاناته من آثار علاقات عاطفية فاشلة، وخوفه من تجربة الحب، والارتباط.
نسمع دقات قلب «نجوى» فى مشهد «مطعم السمك»، من فرط سعادتها، لسماعها مغازلة «يحيى»، حتى كاد ينخلع قلبها، وقلوبنا معها، فتهدئ من روعها، حين ترتبك، وتتلعثم، وتخونها قدرتها على سماعه، لخوفها ألا يتحمل قلبها، فتطير بعيدًا نحو الحَمَّامْ، لتمنحه حرية الفرحة، التى انتظرتها طويلاً، لنرى فى المرآة روحًا شفافة، رقيقة، بريئة، عذبة.
تحتضن موسيقى «تامر كروان» أرواحنا، بأقصى درجات التعبير الدرامى، ووهج المشاعر الزاهية الألوان، بداية من نسج ألحان تمزج بين «الكمان» و«البيانو»، حتى توظيفه لأغانى الفن الجميل؛ القديم، والمعاصر، المشحونة بالحب، والشجن، والبهجة.
الفيلم تحفة فنية، تعبر عن رؤية فلسفية مشرقة فى الحب، الحياة، الإنسان، جدوى وجوده، فضلاً عن نضج الصورة، والمحتوى؛ لذا استطاع ضوؤه الساطع أن يبدد ظلمة قاعة السينما، وقتامة عالمنا المضطرب، ويعيد الاعتبار للسينما المصرية، ويوقظ بداخلنا صوت الموسيقى، والشغف بالحياة مرة أخرى.