تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
يقوم المدخل النفسي للحديث عن العروبة على مفهومين أساسيين متداخلين من مفاهيم علم النفس الاجتماعي السياسي، وهما: الصور النمطية الجامدة، والانتماء للجماعة.
ظهر مصطلح الصورة النمطية stereotype للمرة الأولى عام 1798 للإشارة إلى عمليات الطباعة التي تستخدم القوالب الثابتة. أما استخدام هذا المفهوم في ميدان العلوم الاجتماعية، فقد بدأ على يدي والتر ليبمان، الذي استعار هذا المفهوم من عالم الطباعة، واستخدمه في كتابه المعنون "الرأي العام" الصادر عام 1922، والذي صدرت منه طبعات عديدة متتالية لعل أحدثها عام 2010. وقد أبرز فيه أن الأفراد يختلفون في إدراكهم للواقع الحقيقي، وأن ذلك يرجع إلى اختلاف الخبرات الفردية بين الأفراد، والميل إلى تفسير الخبرات الجديدة في ضوء الخبرات القديمة, ومن ثمّ، فإن سلوك الإنسان وأفعاله ليست نتيجةً لمعرفته المباشرة بالعالم، وإنما نتيجة لتفسيره لما تقع عليه حواسه، وأن هذا التفسير يخضع لتصورات نمطية سابقة على عملية الإدراك ذاتها.
و لا يفهم من ذلك أن لكل جماعة صورة نمطية جامدة واحدة، فاستخدام الصور النمطية السلبية والإيجابية يجري استخدامها وتبديلها وفقاً لتغير المواقف وتوالي الأحداث، فحين تتوتر العلاقات بين جماعتين أو دولتين تطفو على السطح الصور النمطية السلبية المتبادلة، ويحدث العكس حين تكون الأجواء والعلاقات صافية ودودة.
إن نظرة إلى عالمنا العربي كفيلة بإدراك أنه يحفل بالكثير من التيارات المتصارعة التي يحاول أبناء كل منها زيادة عدد الملتفين حول رايتهم. وبعبارة أخرى، يحاول كل تيار اجتماعي أو فكري أن يجعل من أنصاره جماعةً متماسكةً تشكل مركز جذب للأفراد الآخرين. وفي مثل هذا المناخ يصبح تغير الأنماط الجامدة وفقاً لمجريات الأحداث الواقعية أمر غني عن البيان.
ومع أن اكتساب الجماعة لخصائص كريهة في أعين أعضائها يؤدي منطقياً إلى انهيار الأواصر التي تربطهم بالجماعة التي ينتمون إليها، فإن ذلك لا يصدق في كل الأحوال في ما يتعلق بجماعة الانتماء القومي، حيث يصبح الأمر أكثر تعقيدا، ونصبح حيال احتمالين: الأول، أن تدفع تلك الخصائص الكريهة بفريق من أعضاء الجماعة إلى أن يولوا ظهورهم لجماعتهم نازعين عن أنفسهم ما يربطهم بها، ومولين وجوههم صوب جماعة جديدة يلتمسون عضويتها. والثاني، أن ثمة فريق آخر يمارس "جلد الذات" بقسوة، ولكن ارتباطه بالجماعة يظل على ما هو عليه، بل قد يتزايد، محولاً نقده الذاتي إلى قوة دافعة لمحو تلك الخصائص الكريهة عن جماعته. ولعل أوضح مثال لهذا الفريق هو ما شهدته الأمة العربية عقب هزيمة عام 1967، إذ تصاعدت موجة ما يمكن أن يطلق عليه "الميل إلى جلد الذات".
ويكفي النظر في هذا الصدد إلى الكتابات التي بدأت عقب الهزيمة، ثم استمرت في التصاعد، مثل عنوان كتاب صادق جلال العظم الصادر 1968: النقد الذاتي بعد الهزيمة، والذي أرجع فيه الهزيمة إلى ما تتصف به الشخصية العربية من سمات سلبية مثل إزاحة المسؤولية عن النفس، وإرجاع الهزيمة إلى عوامل خارجية، والعجز عن تقبل الحقيقة والواقع، وإخفاء العيوب. ويتفق ذلك مع ما خلص إليه فؤاد زكريا في مقاله المنشور عام 1969 بعنوان "شخصيتنا القومية:محاولة للنقد الذاتي". وتشير دراسة ميدانية منشورة عام 1981،أجراها سعد الدين إبراهيم والسيد يسن ووليد قزيحة إلى أن صورة الشخصية العربية في عيون أبنائها تتصف بالغدر، والخيانة، والضعف، والخشونة، والصلف، والبذخ، والكسل، والنفاق، والتناقض.
و يجب أن نضع في الاعتبار في محاولة فهم تبادل الأنماط الجامدة بين الجماعات تصور الجماعة لذاتها وتصورها للجماعات الأخرى، فالأفراد مدفوعون لأن يستمدوا هوية اجتماعية إيجابية من خلال عضويتهم للجماعة التي ينتمون إليها. وبناء على ذلك، فإن عضوية الأفراد في جماعة اجتماعية معينة، يساعدهم في إحساسهم بتقدير الذات وتقدير الجماعة التي ينتمون إليها، ويميل هؤلاء الأفراد إلى تفضيل جماعتهم أكثر من تفضيلهم للجماعة الخارجية، وهو ما يمكن تطبيقه أيضا على العلاقات بين الدول؛ فأفراد كل دولة يميلون للبحث عن مجالات تميز أعضاء دولتهم التي ينتمون إليها عن أعضاء دولة أخرى، خاصة إذا كان هناك تنافس أو صراع بين الدولتين.
و ثمة عوامل عديدة تؤثر في تشكيل تلك الصور النمطية الجامدة لا يتسع المقام لتفصيلها، و لعل للحديث بقية.
Kadrymh@yahoo.com