ربما لا تعرف مَن هي ناتالي، أو ريما، أو جاكلين إسبر المناضلة اللبنانية التي رحلت في صمت، فقد قضت حياتها متخفية من السلطات الإسرائيلية.
«بطلة سطّرت أهم عملياتنا النوعية ضد العدو الصهيوني، ولم تنثنِ عن النضال ضد الظلم، مكتفية في نضالها بقوتها اليومي ومسدسها الشريف"... هكذا نعت الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية "جاكلين".
رحلت جاكلين، أمس الخميس، في صمت بعد صراع مع المرض، امتلأت حياتها بالصخب التي توَّجتها بالمشاركة في عملية اغتيال "ياكوف بارسيمنتوف" عام 1982 ليحكم عليها بعدها غيابيًّا بالمؤبد من قِبل المحكمة الفرنسية.
هي واحدة من مؤسسي الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية التي شاركت بعمليات نوعية ضد أهداف صهيونية وأمريكية في العالم، إلى جانب رفقاء لها في الفصائل، خاصة عميد الأسرى في العالم جورج إبراهيم عبدالله ابن القبيات وجوزفين عبدو ابنة عندقت، عرفت باسم حركي "ريما".
وُلدت جاكلين اسبر في9 سبتمبر 1959 ببلدة "جبرايل عكار"، وهي البلدة التي عرفت تاريخيًّا بأنها أنجبت العديد من المناضلين وفيها كان أوائل الذين انتموا إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في بدايات التأسيس الأولى، ومن بلدتها انطلقت "ريما" لتنضم فيما بعد إلى صفوف الثوريين، آمنت بقضية فلسطين كقضية مركزية، لم تتبنَّ السلمية مع العدو الصهيوني ولم تقتنع باللجوء إلى طاولة المفاوضات لانتزاع الأرض، كانت دوما تري أنه لا يفلُّ الحديد إلّا الحديد ومواجهة النار بالنار.
كان شعارها "وراء العدو في كل مكان"، وهو الشعار الذي وضعه الشهيد الدكتور وديع حداد، من مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
تأثرت بالمناضلين الثوريين القوميين وسارت على خطاهم أمثال الشهيدين فؤاد شمالي وكمال خير بك ثم على خطى كارلوس.
وعن حياة المناضلة الراحلة، ففي شهر أبريل من العام 1982 قُتل الدبلوماسي الإسرائيلي، ياكوف بارسيمنتوف، في العاصمة الفرنسية باريس، بعد أن أطلقت امرأة النار عليه.
اتهمت تل أبيب الفلسطينيين كالعادة بتنفيذ العملية، أحدثت عملية الاغتيال ضجة كبيرة داخل الصحافة الإسرائيلية، وقالت الصحف العبرية آنذاك، إن عملية الاغتيال جزءٌ من هجوم مُخطط لمنظمة التحرير الفلسطينية، ودخلت إسرائيل في حالة من الهستيريا بسبب العملية، وبدأت أجهزة مخابراتها العمل.
وأصدر الرئيس الفرنسي في ذلك الوقت، فرانسوا ميتران، الأوامر للقوات الأمنية والمخابرات بمُلاحقة المخططين والفاعلين، حسبما أفادت "معاريف".
حكمت عليها محكمة فرنسية غيابيًّا بالسجن المؤبد، وعادت إلى لبنان، حيث كانت تتنقل بحذر في مخيمات اللجوء الفلسطيني.
عُرفت المرأة المجهولة الهوية لدى السلطات الفرنسية بالاسم الذي انتحلته وهو جاكلين إسبر، وبالإعلام الفرنسي "بالمرأة ذات القبعة البيضاء".
على أثر هذه الحادثة اعتقلت السلطات الفرنسية المناضل جورج عبدالله الذي كان يترأس حينها الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية، حيث كانت جاكلين أو ناتالي عضوًا مؤسسًا فيها.
وخطفت الفصائل الثورية ضابط مخابرات فرنسيًّا لإجراء تبادل والضغط لإطلاق سراح "جورج إبراهيم عبدالله".
لم تكن "ريما" تختلط بالناس" فحتي أهالي "جبرايل" لا يعرفونها، فالمعلومات عنها شحيحة للغاية، وكل ما يعرفونه عنها أنها الأسطورة التي حاربت العدو الصهيوني، وبعض القصص التي يسمعونها عن نضالها إلى جانب الفصائل الثورية اللبنانية.
كانت جاكلين تزور في الفترات الأولى بلدتها جبرايل متخفية بمرافقة حراس، قبل أن تعود اليها في عام 2000 بعد إصابتها بالمرض، وتمضي أوقاتها وحيدة بعد وفاة والدها وانتقال والدتها للإقامة مع أشقائها في الخارج.
ووفقا للمعلومات الشحيحة عن "ريما"، فقد عاشت بعيدا عن الضوضاء وبقيت متوارية ما بين بيروت وبلدتها جبرايل، التي ماتت فيها.
عثر عليها جثة هامدة في منزلها وجاء اكتشاف الجثة اثر محاولات عديدة من قريبة لها اجرت اتصالات هاتفية معها دون ان تلقى الجواب على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة رغم علمها انها بيتها، وحين قلقت عليها اقتحمت البيت لتجدها متوفاة.
وأجرى الطبيب الشرعي فحصًا أكد أنها توفيت جراء أزمة قلبية، بالرغم من انها تعالجت وشفيت من مرض السرطان، حسبما أفاد الكاتب اللبناني "جهاد نافع".
لم يتطرق الإعلام الإسرائيلي لخبر وفاتها، فلم يتمكن الموساد من اعتقالها أو اغتيالها، فأصبحت "ريما" إخفاقًا كبيرًا للموساد.
احتمت "ريما" بالمجهولية، فلم يكن هناك الكثير من المعنيين بقضيتها حولها، ولم يعرف أحد هل كنت على قيد الحياة، وهل هي في لبنان أو خارجه؟
بات رحيل "ريما" علامة تعجب، كيف عاشت بيننا طوال هذه السنوات دون أن تفخر ببطولتها، وكيف كانت تعيش دون أوراق رسمية أو مصدر دخل ثابت، كيف كانت تنفق علي نفسها، دون تأمين طبي بسيط، كيف استمرت وصمدت بقناعتها بعيدًا عن الصخب والإعلام؟!
ربما راقبت "ريما" العالم، وما يحدث في القضية الفلسطينية تحديدا فقد كانت هدفها الأسمى، ومن يخون ومن ينقلب ومن يحفظ القدس في قلبه.
رحلت "ريما" بلا نجومية ولا سند أو حتي حماية، دفعت ثمن نضالها العيش في الظلام.
وضعت "ريما" أهدافها نصب أعينها، فالهدف الأول كان أن تظل حرة، تختبئ من القوات الإسرائيلية، والثاني أنها لن تتنازل أو تتراجع عن قضيتها المؤمنة بها، ونجحت ريما في المهمتين.
ربما رغبت "جاكلين" أن تلقن الجميع درسًا "ليس عيبًا أن تكون منسيًّا" فالأهم هو خدمة الوطن، لم تطلب تكريمًا، ولم يكرِّمها أحد، فقد نجحت في تنفيذ أهدافها بامتياز.