الأربعاء 03 يوليو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

تقارير وتحقيقات

عرق الفواعلية.. 6 ملايين عامل تراحيل بلا حقوق أو تأمينات أو رعاية صحية.. رأس مالهم الصحة وفأسهم "الأجنة والشاكوش".. 8% منهم نساء ويعملن 8-12 ساعة.. وقيادي عمالي: دون نقابة ترعاهم

صوره ارشيفيه
صوره ارشيفيه
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حكاية كل يوم رزق، "مش عاوز رجالة يا بيه، محسوبك عامل تراحيل وفي الخدمة"، جملة رنت في أذني على أحد الأرصفة التى يتراص عليها عشرات العمال الفواعلية في انتظار الرزق، وأنا أتابع حوار اللهاث خلف الجنيه، رجل بيه ومحترم وبنظارة سودا ينظر من خلف زجاج سيارته ويشاور للبعض منهم بالركوب، مجموعة عمال يسرعون في تلبية الأمر، ويسأل أحدهم: على فين يا بيه؟" هنشيل طوب، ولا هنكسر خرسانة ولا هنهد بيت؟، ولم يرد أبو نظارة الذي انطلق في صمت.
هو، مشهد يتكرر كل يوم، مطرقة وشاكوش وأجنة وأزاميل، صور تدمي القلوب، هروب من الفقر، تضحية بالصحة والعرض مقابل المال، مفردات متناثرة عند تجميعها وترتيبها تتضح معالم صورة مأساوية لملايين من العمال في مصر مهضومي الحقوق والرعاية من الذين يذكرهم المسؤولون في تصريحاتهم بأنهم ضمن نسبة 26% "تحت خط الفقر"، ربما يكونوا أبشع صورة للفقر نفسه، رغم توكلهم على الله وسعيهم "المضني" في سبيل لقمة عيش تسد رمق أسرة وأطفال لا ذنب لهم غير العيش في مجتمع "بلا قلب".
ليست المرة الأولى وقد لا تكون الأخيرة التي نتناول فيها "مأساة" عمال التراحيل، قبل أن أخطو أي خطوة استحضرت لحظات عشتها بنفسي منذ ما يزيد على 15 عامًا تقريبًا في بداية عملي الصحفي مع تلك الفئة "المهمشة"، عندما استهوتني فكرة معايشة بعض الذين "يتاجرون بصحتهم" من العمال في مجال البناء والمقاولات، فلا رأس مال لديهم ولا حرفة أو شهادة جامعية يعملون بها، رأس مالهم "الصحة" فقط.
أن تشعر بالضغط العصبي الشديد والقلق من تحصيل لقمة العيش لأنك تخرج من بيتك "على الله" حاملًا مطرقة وشاكوش وأجنة وأزاميل، ولا تعلم إذا كنت ستعود بما يحتاجه بيتك وأفراد أسرتك من مأكل ومشرب، أو سترجع إليهم بخفي حنين كما يقول المثل العربي الشهير فهذا شيء مرعب، وربما لا يخفف هذا الضغط إلا الإيمان واليقين بأن الزرق مقدر لكل إنسان وما عليك غير السعي، كان اتفاقي وقتها مع شخص "مكافح" أعرفه وكان خريج إحدى الكليات يدعى محمود أبو رحمة الشهير بـ"القمة"، معروف عنه أنه يعمل "في الفاعل" في بعض الأحيان عندما تسد أمامه أبواب الرزق حيث لم يحصل على وظيفة ثابتة "ومقضيها شوية في مطعم وشوية ينتظر مساعدة والده"، وطلبت منه أن يصطحبني معه في أي "شغلانة" قريبة بحجة أني أمر بضائقة مالية وأريد أن أشتري لنفسي بعض الأشياء ومرتبي لا يكفي.
مرت أيام إلى أن وجدته يمر عليّ في البيت ويخبرني أنه في الغد سيعمل في "مقاولة" صغيرة في إحدى المناطق المجاورة وهي رفع كمية من الرمال إلى الدور الثالث في إحدى البنايات الجديدة التي يتم تشطيبها، واتفقنا على مكان اللقاء والموعد والأجر الذي كان وقتها 15 جنيهًا، لأني مستجد وليس عندي خبرة كافية تجعلني أقوم بنفس الجهد الذي سيقوم به هو، وكما شرح لي أنه في الوقت الذي سيرفع هو "شيكارتين" سأرفع أنا واحدة بالكاد، وهو ما حدث بالفعل.
بدأت المهمة وهممت برفع أو حمولة على كتفي وزنها في حدود 15- 20 كيلو، كدت أسقط بها أرضًا لولا أني تحاملت وقررت أن أثبت له أن عزيمتي وإصراري ستغلب ضعف قوتي وقلة خبرتي، فبنيان جسدي لم يكن مؤهلًا لتلك المهمة العنيفة، وبالفعل ساعدني في رفع أول "شيكارة" على كتفي وتحركت نحو السلم أجر قدماي واتسند على الحائط حتى لا أقع على الأرض، فأخسر المهمة والتجربة وأتعرض للسخرية، لكني كنت خلال دقائق معدودة منذ ان خطوت أول درجة حتى نزلت أنها "أول وآخر شيكارة" قد أخذت قراري بالانسحاب، فليس لدي استعداد أن أصاب بأي شيء غير متوقع لأني أدركت ان تلك المهنة الشاقة لها أصول وقواعد وتحتاج لتدريب وبناء جسدي ملائم لا يتوفر لدي، فاعتذرت له أني سأتركه يعمل وحده باقي "المقاولة" لأني شعرت بدور برد "داخل عليّ" ويجب ان أرتاح قبل أن تزيد أعراضه كما أن المبلغ المتفق عليه لا يرضيني، فتقبل اعتذاري على مضض وكأن لسان حاله يقول "طالما مانتش أدها بتقول ليه عاوز أشتغل في الفاعل".



عدت أدراجي وأنا أشعر بفرحة غامرة أني كسرت حاجز الخوف وخضت تجربة لا يفكر غيري مجرد التفكير فيها، واقتربت من عالم فئة "كادحة" بكل معنى الكلمة حاملا لهم كل التقدير والاحترام، على عكس ما كنت أشعر به تجاه عشرات أصادفهم كل يوم ممن يعملون في هذا المجال ممن يهدمون الجدران أو يحملون "أكياس الرمل وشكاير الأسمنت" على أكتافهم ولا حيلة لهم في الرزق ولا رأس مال غير صحتهم وعافيتهم.
دفعتني تلك المشاعر المتضاربة تجاههم من العطف والاحترام والتقدير لأن أبحث عن أصل تلك التسمية "عمال التراحيل" فوجدت أنها في الأصل كانت تخص الفلاحين الذين كانوا ينتقلون من مكان إقامتهم في مطلع اليوم للعمل في مكان اخر والعودة في اخره حيث لا توجد أي فرص عمل في بلدهم، وكانت في الغالب تقتصر على العمل في أعمال الزراعة في الريف المصري ما قبل يوليو 1952، وربما اقتبست من كلمة ترحيل أي نقل الشي من مكانه لمكان آخر، وقد رأينا رائعة يوسف إدريس "الحرام" والتي ناقشت تلك القضية والتي وصلت فيها البطلة "عزيزة" والتي قامت بدورها الفنانة الراحلة "فاتن حمامة"، أن أجبرتها الظروف للتضحية بشرفها إضافة إلى استقرارها في بيتها وراحة بالها بسبب مرض زوجها "عبد الله" ما جعلها تغادر القرية مع عمال التراحيل، وتحمل في الحرام.
بمرور الوقت توارى هذا النوع من العمل وتغير المسمى بسبب تفتيت الملكية الزراعية بعد 1952 فلم يعد هناك حاجة لأن يتم جلب فلاحين من قرى مجاورة وأصبح كل فلاح يكتفي ذاتيا بأعمال حقله بمساعدة أفراد اسرته، وظهر نوع جديد موازٍ لتلك الفئة أصحبت تسمى "الفواعلية" ازدهر نشاطها رغم أنه موسمي وغير دائم مع انتشار حركة البناء على الأراضي الزراعية أو حركة العمران التي شهدتها محافظات ومدن مصر خلال 60 سنة مضت.
تغيرت المسميات لكن بقيت الظروف كما هي، فلا دخل ثابت ولا رعاية صحية مناسبة ولا تأمينات تمنحهم الحياة الكريمة عند كبر سنهم، لأنها مهنة ضد "العجز" بفتح الجيم، وكبير السن فيها يعامل معاملة خيل الحكومة ويحكم عليه بالاعدام حتى لو ظل حيا، فلا أحد يقبل أن يمنحه فرصة عمل يومية لهدم جدار أو نقل الأثاث ومواد البناء وخاصة حمل الرمل والطوب والبلاط أو ورمي خرسانات في الأسقف التي لا تستطيع الميكنة الدخول إليها لضيق شوارعها، ويضطر العمال إلي حملها على أكتافهم.
حكاياتهم لا جديد فيها وتحمل نفس الرتوش ووجوههم لها نفس الملامح حتى مع أشخاص مختلفين، بؤس وإجهاد وحملان الهم والتفكير في بكرا، وشكاوى من العمل يوم والمكوث في البيت أيام، وحوادث قد تجعلك تبكي، فقد يكون أبسطها كسر في الساق يستوجب تركيب مسامير وشرائح معدنية يستدين صاحباها لتركيبها إضافة إلى استدانته للإنفاق على أسرته بعد أن أصبح عاطلا طريح الفراش.



نفس التفاصيل التي تسمعها من "حسين" الذي ترك قريته في قنا وسكن منطقة فيصل حيث اكبر تجمع للفواعليه، أو "محمد" الذي جاء من سوهاج قاصدا وجه كريم للبحث عن لقمة عيش حلال في "أم الدنيا" لكن تفاجئه قسوة الدنيا وفقر أمها وتقصيرها مع أبنائها، وكذلك دموع حبيسة تراها في أعين سمير الذي يقف مع زملائه تحت كوبري‮ أبو الريش منذ الصباح الباكر وعيونهم مركزة على السيارات المارة أمامهم،‮ حتي‮ إذا ما وجدوا سيارة تتباطأ أمامهم هبوا إليها هبة رجل واحد مندفعين إلي‮ صاحبها لا يملكون غير عبارة واحدة "مش عاوز رجالة يا بيه؟!".
ينتشر عمال التراحيل أو الفواعلية في كل مدينة وفي كل محافظة في مصر سواء في الوجه البحري أو القاهرة والجيزة والإسكندرية أو الفيوم، ما بين تقاطع شارع نصر الدين بمنطقة الهرم، أو شوارع منطقة فيصل أو على كوبري المريوطية وفي أرجاء مدينة أكتوبر وزايد، وعلى الأطراف الأخرى من القاهرة الحي العاشر ومدينة السلام، أو عند كوبري أبو سرحة شرق الإسكندرية، وميدان الصينية بالورديان، أو بميدان الجمهورية، أو بالقرب من المحطة أو الحكمة بطنطا وميدان الشون بالمحلة، أو بالشارع الرئيس لكوبري السنترال بمدينة الفيوم.
هم بمثابة "ملح الأرض" ويقدر عددهم بحوالي 6 ملايين عامل بحسب أخر الاحصائيات عام 2011 بنسبة 40% من عمال مصر، وفى دراسة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية تحت اشراف د.ثروت اسحاق تشير إلى أن نسبة وجود المرأة فى مهنة "التراحيل" خاصة في الريف وصلت فى الفترة الأخيرة إلى 8% وهو رقم كبير لأن المهنة شاقة وكانت مقتصرة على الرجال فقط وتحت ضغط الفقر والجوع وربما عملًا بمبدأ كلنا فى الهم سواء.. ذهبت المرأة للعمل فى التراحيل برفقة زوجها وعلى الرغم من أنها تعمل نفس العمل إلا أنها تحصل على نصف أجر الرجل.. وتزيد نسبة الأمية بين النساء فى هذا القطاع على 95٪ وتتراوح ساعات العمل بين 8-12 ساعة يوميًا.
ويقول د. ثروت أن عمال التراحيل هم فائض العمالة الزراعية فى القرى حيث يتولى جمعهم مقاول أنفار ثم يقوم بنقلهم إلى أماكن العمل لفترات تتراوح بين شهر وعدة شهور ولجوء النساء لهذا المجال الصعب يدل على عدم توافر فرص عمل أخرى.. وغالبًا إذا كان لهؤلاء النسوة أطفال يتركهن أثناء فترة العمل فى رعاية أمهاتهن أو أمهات أزواجهن.
الأغرب، انه حتى الآن لا توجد مظلة قانونية أو نقابية تظلهم وتدافع عن حقوقهم أو توفر لهم أدنى رعاية صحية أو تأمينات في حال تعرضهم للمخاطر، وهو ما جعلنا نتوجه بالسؤال إلى "طلال شكر" القيادى العمالى ونائب رئيس النقابة العامة لأصحاب المعاشات، وعضو المجلس الاستشاري لاتحاد عمال مصر الديمقراطي، وكانت إجابته صادمة مؤكدا أنه بكل أسف ليس هناك أي مظلة رسمية لهم وهم في نظر القانون والعمل النقابي "عمالة غير منتظمة" وقد تقدم كثيرين منهم إلى وزارة العمل لتأسيس نقابة سواء رسمية أو مستقلة لكن لم ينظر في طلبهم حتى الآن، حيث لم يحصلوا على موافقة الأمن.
وأوضح "شكر" أنهم شريحة كبيرة من عمال مصر يجب إعادة النظر تجاههم وإعطائهم بعض من الرعاية الواجبة على المجتمع والحكومة، والسماح لهم بالتامين على أنفسهم صحيًا واجتماعيًا، منوها إلى وجود بعض الكيانات لهم في المحافظات لكن لا ترتقي إلى مستوى النقابة، مطالبا القوى العاملة بفتح باب التسجيل لهم لتأسيس نقابة تحميهم.