عبارة واحدة يمكن أن تُلخص اتصالًا هاتفيًا جمع بينى وبين إعلامى مشهود له بالمهنية «الناس تصدق ما تحس أنه حقيقي»، كنت أتناقش معه حول نتائج تقارير بحوث المشاهدة الأسبوعية، والتى لا تعترف بها الصحف والقنوات المصرية، إلا عندما تكون النتيجة فى صالح القناة المرتبطة بها الصحيفة، كانت النتائج تؤكد أن التراجع مستمر فى متابعة برامج التوك شو، وأنه حتى البرامج صاحبة الصوت العالى التى تشغل مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى وتنتشر أخبارها فى المواقع الإلكترونية قبل نزول تتر نهاية كل حلقة، حتى هذه البرامج متراجعة فى تقارير المشاهدة، إذن من الذى يمكنه التأثير فى الناس أو بمعنى أدق لماذا لم يعد الناس يتأثرون بالإعلام، حسب صديقى الإعلامى، فإن الإعلام فى كل الأحوال لم يكن هو المؤثر، وإنما الناقل لما يحدث فى الشارع، وأن الناس تتعامل حاليا مع الإعلاميين وكأنهم ـ أى الناس ـ يقفون فى البلكونة ويتابعون صراخًا من هذا، وحوارًا هادئًا من ذاك، وتراشقًا بالألفاظ بين طرفين يقتحمان المشهد فجأة ويختفيان فجأة، لكن المتفرج يظل متمسكًا بالبلكونة ولا يتأثر إلا بما يصدق.
خطورة ما سبق هو استحالة الثقة فى قدرة الإعلام على حشد الناس لقضية وطنية حقيقية، بعيدا عن القضايا المزيفة التى يتم طرحها فى الشاشات المصرية كل يوم، حتى فيما يتعلق بالتبرعات والأعمال الخيرية، المتبرعون مستعدون دائما للاستجابة لأن لديهم الاستعداد للبذل والعطاء، صحيح أن التأثير يتفاوت من إعلامى لآخر، لكن القدرة على جمع التبرعات ليست وحدها دليلًا على الوصول للجمهور.
إذا نظرت لآخر الأزمات وهى فيلم قناة الجزيرة عن عساكر الجيش المصري، الفيلم حظى بدعاية مبالغ فيها بسبب استباق الإعلاميين المصريين لما سنراه فى شريط خرج باهتًا وتافهًا، لدرجة لم يصدقها حتى مؤيدى الجزيرة وأفلامها، لكن حجم البحث والاهتمام بالفيلم وبباقى نشاطات الجزيرة تضاعف خلال الأيام التى سبقت العرض، تخيل أن صاحب محل يقول للجمهور اذهبوا للمحل الآخر لتشاهدوا حجم البضائع الفاسدة التى يعرضها، سيذهب الناس ويشاهدون تلك البضائع بالفعل، لكن صاحب المحل الأصلى لا يعرف أن الناس يرون محله خاويًا من كل شىء إلا صوته المرتفع.
بناء على ما سبق يمكن القول إن الإعلام المصرى فى آخر عامين وربما أبعد من ذلك ما زال فى مرحلة من عدم الاستقرار تمنعه من الوفاء بمتطلباته، والإصرار على غياب التنوع وإبعاد الوجوه المعتدلة خلف الكاميرا وعلى الشاشة، والامتناع عن مناقشة قضايا الشعب المصرى بالمفهوم الواسع والاحترافى لهذه المنافشة، يجعله مجرد شاشات للفرجة لا للتأثير والتفاعل، ويجعل المتفرج يدخل البلكونة فقط للتسلية، والتأكد من أنه لا شىء يتغير، والاقتناع بأن الإعلام يغطى القضايا السياسية اليومية فقط يشبه الاقتناع بأن زحف مئات الآلاف إلى المولات يوم «الجمعة السوداء» يعنى أن الناس ما زال معها أموال تنفقها على «الشوبينج» بينما هناك ملايين فى كل ربوع مصر لم يدخلوا «مولًا» قط وبعضهم يعتبر الذهاب للمول فى إجازة العيد هو أقصى أمانيه.
الإعلام المصرى غائب بسبب قلة الإمكانات عما يجرى فى المحافظات، الإعلام المصرى غير موجود فنيًا وثقافيًا كما ينبغي، دور الإعلام فى التوعية والتعليم منعدم، والبديل دائما أمام الناس، إما الشائعات فى الشارع أو الفوضى عبر مواقع التواصل الاجتماعى.
تعبير «الإعلام المصري» هنا يشمل بالطبع الصحف المطبوعة والإلكترونية والمحطات الإذاعية، وليس فقط برامج التوك شو، هل تعلم مثلا أن القنوات الخاصة كلها لا يوجد بها سوى برنامج أطفال واحد، وأن أفلامنا المصرية الجديدة لا تصل للقنوات الخاصة ولا حتى ماسبيرو بالطبع، وأن الفعاليات الثقافية والفنية لم تعد تنقل على الهواء، وإنتاج الوثائقيات تشعر أنه من الكبائر مع أنه لو قررت كل قناة أن تنتج فيلمًا عن أحد أبطال الجيش المصرى لأصبح لدينا خلال سنة واحدة ١٠ أفلام على الأقل، افتح القوس ولن تغلقه فيما يتعلق بالغائب فى الإعلام المصري، أما الحاضر فهو الأخبار نصف المفبركة أو المفبركة بالكامل، مقالات الرأى التى يكتبها عتاة فى وأد وجهة النظر الأخرى، أخبار «الترافيك» التى يتضح لاحقا أن ٩٠٪ منها غير دقيق، صور أفراح الفنانين وعزاء النجوم، صراعات نجوم الكرة قبل وبعد المباراة وبين الشوطين.
هذا هو حال الإعلام المصرى فى آخر عامين للأسف، وفى العامين المقبلين عندما نحتفل بالعيد الرابع لجريدة «البوابة» لا أتوقع أن تتغير الصورة كثيرا، لأنه حتى يتغير الإعلام المصرى فى عام ٢٠٢٠ مثلا، لا بد أن نبدأ قبلها بخمس سنوات على الأقل، تماما مثل التعليم لا يتطور بقرار أو بإجراءات عاجلة، بل باستراتيجية يضعها من يعترف بأن ما فات كان خطأ، وأن المطلوب هو تغليب المهنية مع مراعاة الثوابت الوطنية، وعدم الحكم على الكفاءات بناء على آرائهم الشخصية، لأن الآراء تتغير لكن المبادئ تظل قائمة، وأن المهم هو الالتزام بالسياسات التحريرية المعلنة داخل كل قناة أو جريدة، والتوقف تمامًا عن إهدار إمكانات القنوات والصحف الضعيفة أصلًا فى برامج وصفحات ومقالات لا تفيد القارئ، لأنه عندما تغلق قناة أو تسقط صحيفة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، الصناعة ومن يعتمد عليها لمخاطبة الرأى العام سيخسر كثيرًا، أما المتفرج أو القارئ فسيظل مكانه فى البلكونة يشاهد قنوات أخرى ويقرأ صحفًا تكتب عن مصر من خارجها، لكنه فى كل الأحوال لن يصدق إلا ما يحس أنه حقيقي.