الكتابة عن فرح أنطون صعبة جدا لأن أمواجها تقتادنا إلى بحور لا تنتهي، فكتاباته فى الفلسفة والأديان والسياسة ورواياته ومسرحياته، وعلم المجتمع والاشتراكية غزيرة.. بل هى بلا حدود لرجل اعتاد ولفترة طويلة أن يكتب وينشر عدة مقالات فى اليوم الواحد وحول موضوعات مختلفة.. والكتابات عنه هى أيضا بلا ضفاف.. فليأذن لى القارئ أن أكتب فى موضوعات محددة وباختصار.
ونبدأ بنموذجين من كتاباته السياسية.. ونطالع فى الأول حكاية لصهره نقولا الحداد ويقول فيها «إن أحد الموظفين المقربين من سلطات الاحتلال قال له إن نسيبك فرح متهور فى كتاباته بشأن الحركة الوطنية وأخشى أن يؤدى تهوره إلى نفيه من البلاد كما نفى أصحاب «البلاغ المصري» فحبذا أن تنصح له أن يعتدل، ثم أعاد هذا الموظف تحذيره كإنذار أخير، ولكن هذه المرة لفرح نفسه وكان رد فرح (أتأسف أن أقول لك إننى لست أحترف القلم لكى أسترزق منه، بل أحترفه لأكتب ما تقرأه فإذا لم يؤذن لى أن أكتب ما يوحى إلى به ضميرى فإنى أطلب الرزق من حرفة أخري)، ويمضى نقولا».. غير أن فرح استمر فى طريقه وكانت النتيجة إغلاق ثلاث صحف على التوالى بسبب شدة قلمه.. واستقر فرح فى جريدة «الأهالى» فأُغلقت ستة أشهر بسب مقالات له كانت كالصواعق وصدرت «المحروسة» بدلا منها ثم أُغلقت «المحروسة» لذات السبب وكانت الستة أشهر قد قاربت على الانتهاء لتعود «الأهالى».. ويروى نقولا حوارا جرى بينه وبين فرح.
الحداد: من الأفضل أن تخففوا الهجوم حتى تسلم «الأهالى» من الإقفال. فرد فرح: معنى هذا أن نرمى سلاحنا ونرفع العلم الأبيض.
ويستمر الحداد: ولكن ماذا تفعلون لو عادت الحكومة لإغلاقها؟
ورد فرح: نحن محاربون وإقفال «الأهالى» أفضل جدا من أن تحيد عن مواقفها قيد شعرة.
ويستغرب الحداد: وماذا تفعلون وهى مقفلة؟
فرد فرح بإجابته التى ما زالت تتردد لدى بعض المفكرين المناضلين: نفعل ما يفعل الجيش إذا تحصن عدوه من جهة يأتى له من جهة أخرى، فنلجأ إلى ما يسمى فى الفنون الحربية إلى حركة التفاف، فنكتب كتبا وكراريس ونؤلف روايات تمثيلية عن واق الواق.. والشعب ذكى وهيفهم.
وصدرت «الأهالى» وفى صدرها مقال غاية فى العنف بعنوان «الأهالى بين الفتح والإغلاق» وفيه «أن الحياة أصبحت مباحة فقط لفريق من الناس دون فريق، فلا عدل ولا حق ولا أمن ولا حرية إلا إذا وافق ما تقول أهواء الحكام وإذا كان الأمر كذلك:
فيا موت زر أن الحياة ذميمة / ويا نفس جدى أن دهرك هازل».
وصدرت «الأهالى» يومين وفى اليوم الثالث أُغلقت.. وفى هذه الأثناء كان فرح مريضا جدا وحرارته أربعين ورفض البقاء فى البيت، وصمم أن يحملوه إلى «الأهالي» ليتواصل إصدارها.. قائلا: «إذا كان لا بد أن أموت فلأمت وأنا فى الأهالي»، لكن «الأهالى» أُغلقت وفى نفس اليوم رحل فرح.
أما الموقف الثانى فكان موقفه من سعد زغلول.. وفرح كان وفديا نشيطا وأسهم كثيرا جدا فى تحرير الصحف الوفدية، لكنه كان وفديا من نوع خاص، فإذ لمح فى مواقف الزعيم المهيب سعد زغلول قليلا من التردد اعترض عليه، فلما نشر سعد تصريحا فى جريدة «الأخبار» قال فيه «إنه على استعداد للتفاوض مع الإنجليز».. اشتدت معارضة فرح لسعد وللوفد وقاد حملة على صفحات «الأهالى» أيام ١٠ و١١ و١٢ و١٣ و١٤ يناير ١٩٢١ عنوانها «الرأى العام يسقط توكيل الوفد».. وبدأت «الأهالى» فى نشر أسماء لأشخاص يسحبون توكيلاتهم للوفد، ومن بينها جمعيات وروابط للطلاب المصريين بالخارج الذين كانوا يساريين وعلى ارتباط بالحزب الاشتراكى الفرنسى وبالحزب الآخر الأكثر يسارية فى فرنسا وهو حزب حقوق الإنسان.
وفى يوم ١٤ يناير يتوج فرح أنطون حملته بأبيات من الشعر تقول:
إلى أين تمضى بالإمامة يا سعد
فتجنى على شعب عليك له العهد
رويدك لا تعبث بآمال أمة
شغوف بالاستقلال يهتاجها المجد
فيا سعد حاذر أن تزل طريقه
وإلا فلا سعد هناك ولا وفد
وقد أقام فرح الدنيا لتعترض على تراجع الوفد وقبوله التفاوض.. واضطر سعد للرضوخ، وفى ٢٥ يناير يرسل سعد تلغرافا لجريدة «الأخبار» يقول فيه «إنى لا أدخل فى أى مفاوضات على أساس مشروع ملنر قبل تعديله بالتحفظات، ولا أؤيد من يدخل فيها بدون هذا الشرط مهما كانت علاقته بشخصى أو ثقتى به».. وانتصر فرح.. ونواصل.