عند تتبع أصول وتطورات العولمة الثقافية من المفيد أن نفكر فيها باعتبارها مرت بعدد من المراحل المختلفة، هذه المراحل يمكن أن نصفها بشكل عام بالمرحلة ما قبل الحديثة «الفترة السابقة على سنة ١٥٠٠» والمرحلة الحديثة «١٥٠٠ - ١٩٤٥» والمرحلة المعاصرة «١٩٤٥ - وما بعدها»، ربما يكون من المستحيل وصف كل أشكال أنشطة العولمة خلال هذه المراحل المختلفة، ولكن الهدف ببساطة، هو تحديد القوى والعمليات الرئيسية والاقتصادية والتحولات الاجتماعية والتغيرات المؤسسية.
لقد شكلت عمليات الهجرات الإنسانية الباكرة وظهور الأديان العالمية، والأنظمة الإمبريالية الأولى وتطور شبكات التجارة بين المناطق المختلفة، تجليات العولمة ما قبل الحديثة، أما المرحلة المعاصرة من العولمة (من ١٩٤٥ - حتى الآن) تتميز بشكل عام، ليس فقط باتساع وقدر التدفقات الثقافية التى تبدو فى شكل حركة البشر والأفكار والسلع والرموز والصور، وإنما فى السهولة الكبرى التى تنتقل بها من مكان لآخر، ومن ثم تعمل على تعميق أشكال التواصل الثقافى الكونى.
ويسأل المفكر الاجتماعى البارز «بول هوبر»، هل نشهد ظهور ثقافة كونية؟ الإجابة باختصار أن ذلك ليس من المرجح حدوثه سواء الآن أو فى المستقبل المنظور. والحقيقة أنه على ضوء المدى الذى وصل إليه اتساع التنوع الثقافى الإنسانى، ربما تكون «ثقافة» كلمة كبيرة وقوية لكى تستخدم على المستوى الكونى، ولعل الأرجح فى حال استمرت الأنماط الحالية، أن نرى المزيد من الناس يطورون استعدادهم وقدراتهم على التفكير فيما هو أبعـد من المحلى والخاص، ويكتسبون الشعور بأنهم موجودون فى العالم وأنهم جزء منه.
وعلى الرغم من ذلك، لكى نقرر ما إذا كانت توجد أو تنبثق ثقافة كونية، نحن مرة أخرى فى حاجة للتفكير فيما إذا كان اهتمامنا بتحديد ثقافة كونية موحدة دليلًا على ميلنا للدولة الأمة، الأمر الذى يصبح على نحو متزايد غير ملائم فى المرحلة المعاصرة من العولمة.
وهكذا فإن الاستقرار والتجارب المشتركة المطلوبة لتكوين مثل هذه الثقافات فى حالة صراع مع كل من اتساع التدفقات الثقافية المعاصرة وعدم القدرة على التنبؤ بها. يتبع ذلك، إذن، أننا ينبغى ألا نناقش الثقافة الكونية بالشكل الذى تتخذه داخل المجتمعات القومية أو الجماعات الدينية. وذلك لأننا لا يمكن أن نتوقع أن تمارس ثقافة كونية السيطرة نفسها علينا وعلى خيالنا وتصوراتنا مثلما تفعل ثقافتنا القومية أو الدينية.
وفى هذا السياق يصر عالم الاجتماع البريطانى البارز «أنتونى سميث» على أن «الثقافة الكونية»، مقارنة بالثقافات القومية هى ثقافة بلا ذاكرة أساسًا. بالنسبة له ليست هناك «ذاكرات كونية» تستطيع أن توحدنا جميعًا، وكل ما يمكن أن تفعله أكبر التجارب الكونية حتى الآن «الاستعمار والحرب العالمية» هو أنها تذكرنا بانقساماتنا التاريخية. من المرجح كذلك عدساتنا القومية، وبذلك نستبعدها من أن تكون ذاكرات عالمية أو أساسًا لثقافة كونية.
عولمة الأسواق الرأسمالية قد تقوى التقارب الثقافى بتشجيع الأساليب المشتركة لتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهو توجه ذو متضمنات واضحة بالنسبة للثقافات القومية. وهكذا فإن الضغوط المنافسة فى سوق كونية وانتشار أفضل الممارسات والتكنولوجيات الصناعية وحركية رأس المال والمنافسة، بالإضافة إلى قدرة المؤسسات متعددة الجنسية والعابرة للحدود على إقامة تقسيم عمل دولى وشبكات اتصال عالمية، كل ذلك يؤدى كما يقال إلى تقارب عالمى.
هذه الحالة المصحوبة بحكومات قومية، عليها أن تتبع قواعد واتفاقيات التجارة العالمية وأن تحرر اقتصادها. مثل هذه الحجج يعكس قلق مرحلة سابقة، عندما كان يخشى من الثقافات الصناعية الموحدة القائمة على ممارسات عامة، أن تؤدى إلى تآكل الخصوصية المحلية والقومية، وأن تسهم فى المجتمع الجماهيرى.
العولمة تعيد إحياء هذا الجدال بدرجة ما، لأنها تصف التوجهات التى تتخطى الحدود القومية، واليوم يمكن رؤية هذه التوجهات، على نحو أكثر وضوحًا، ليس فى مجال الإنتاج وإنما فى مجال التسويق والاستهلاك، حيث يوجد تأكيد كبير على العلامات التجارية والماركات المسجلة. يبدو من ثم أن الرأسمالية الكبيرة تؤسس ثقافتها العولمية وأيديولوجيتها الخاصة، على أن هذه النقطة تستلزم موازنة عدد من الدراسات التى تؤكد استمرارية التميز المحلى والقومى، بما فى ذلك أشكال المقاومة الثقافية، فى وجه المسيرة التواصلية للرأسمالية العالمية.