لم يكن المظهر الوحيد لموت الديمقراطية فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة هو الاحتجاج على نتيجة الانتخابات، بل كانت هناك مظاهر أخرى، إذ تتوسع القائمة لتشمل، وفق نعوم تشومسكى، «عاملًا آخر يعرفونه جيدًا فى أوروبا، يتمثل فى تعزيز الشعبوية والقومية المتطرفة. وهناك ارتباط مباشر بين دعم الشعبويين المستبدين والتحمّس لصعود ترامب.
الكثير منهم يشعرون بأنهم مهددون بصعود النَسَوْية، وآخرون يشعرون بأنهم مهددون من قِبَل أوضاع يعتبرونها مُخلّة بالنظام الذى يَرَوْنه ملائمًا.
من هذا الخليط خرجت توليفة شديدة الخطورة. هؤلاء الذين يؤيدون ترامب ليسوا من الفقراء، بل غالبيتهم من الطبقة العاملة البيضاء، الذين عانوا التهميش خلال حقبة النيوليبرالية، ولنكن أكثر دقة، بداية من عصر رونالد ريجان».
وعن خطورة هذه الظاهرة يقول تشومسكى، إن الأمر «يتعلق بالتغيير الجذرى الذى يطرأ على المنظومة السياسية، فالولايات المتحدة فى الحقيقة هى دولة الحزب الواحد، ذى الوجهين السياسيين، أحدهما جمهورى والآخر ديمقراطى. لكن فى الحقيقة، الأمر لم يعد على هذا النحو: ما زلنا بالفعل دولة حزب واحد، ولكنه حزب رجال الأعمال، الذى ليس له سوى وجه واحد، ولم يعد مهمًا ماذا يُسمى، بعد أن اتجه الحزبان نحو اليمين. قبل عقديْن من الزمن كان بالإمكان أن تصبح هيلارى كلينتون الخيار الأفضل بالنسبة للتيار المعتدل بين الجمهوريين».
لكن عند الأخذ بعين الاعتبار، على سبيل المثال الملايين من مؤيدى بيرنى ساندرز المرشح الثالث فى الانتخابات الرئاسية، يمكن التفكير فى حزب جديد، حسب رأى تشومسكى الذى يضيف: «لو كانت لدينا حركة عمالية نشطة ومناضلة على غرار ما كان عليه الوضع فى الولايات المتحدة فى ثلاثينات القرن الماضى، لكان من الممكن أن تجمع بين أنصار ترامب وساندرز الآن، على الرغم من أوجه الاختلاف الكثيرة بينهما، إلا أنه يجمعهما الغضب والاحتقان بسبب الضغط الواقع على الطبقة العمالية والفقراء، وهذا ربما سيكون البداية لكيان جديد».
وعلاوة على ذلك، فإننا -ربما للمرة الأولى- نرى مرشحًا للرئاسة (دونالد ترامب)، يقول إنه لن يعترف بنتيجة الانتخابات حال سقوطه، وسيطعن فى تزويرها. كما أنه هدد السيدة كلينتون المرشحة المنافسة بأنه سيضعها فى السجن حال فوزه بالرئاسة على خلفية إعدامها آلاف الرسائل الإلكترونية التى كانت تحتفظ بها على بريدها الإلكترونى (الخاص)، وكأن مصالح الولايات المتحدة أصبحت شأنًا خاصًا للسيدة كلينتون، أو أن هناك ما كانت تخفيه عن الإدارة الأمريكية والرأى العام الأمريكى إبان عملها وزيرةً للخارجية الأمريكية. أيًا كان الأمر، فتهديد مرشح للرئاسة لمرشحٍ آخر فى مناظرة يشاهدها عشرات الملايين على مستوى العالم ليس من الديمقراطية فى شىء، ويعد أمرًا يتهدد الديمقراطية الأمريكية نفسها.
ولم يكن دونالد ترامب هو الذى ألحق الهزيمة بالديمقراطية الأمريكية وحده، بل لم تكن السيدة كلينتون أقل إسهامًا فى هذه السبيل، حيث يرى ثلث أنصار المرشحة الديمقراطية الخاسرة أن فوز المرشح الجمهورى بنتائج الانتخابات الأمريكية لم يكن شرعيًا، وذلك فى استطلاع رأى أجرى لصالح صحيفة «واشنطن بوست» وشبكة «إيه بى سى نيوز» الأمريكيتين. وبحسب الاستطلاع الذى نشرت نتائجه صحيفة «ديلى ميل» البريطانية فإن فوز ترامب أشعل فتيل الاحتجاجات فى مدن عدة، من بينها نيويورك وميامى وبورتلاند وأريجون وإنديانابوليس.
وأظهر أن ٧٤٪ من الأمريكيين يقرون بالفعل بشرعية انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، مقابل ١٨٪ لا يقرون بذلك. وذكر ٥٨٪ من مؤيدى هيلارى كلينتون أنهم يقبلون المرشح الجمهورى الفائز رئيسًا لهم، بينما يرى ٣٣٪ منهم أن وصوله إلى البيت الأبيض غير شرعى.
ومن بين أنصار المرشحة الديمقراطية الخاسرة ممن يرون فوز ترامب غير شرعى، يشعر أكثر من الربع بـ«الحسرة» من الأمر، ويزيد عدد النساء منهم عن الرجال بمعدل الضعف؛ ٤٢٪ مقابل ٢١٪. فى غضون ذلك، أظهر الاستطلاع أن ١٨٪ فقط من مؤيدى كلينتون ممن يعتقدون أن انتصار ترامب غير شرعى، من البيض، مقابل ٥١٪ من السود والأشخاص من ذوى الأصول اللاتينية؛ ما يمثل أكثر من نصف مؤيدى المرشحة الديمقراطية.
وعلاوة على سقوط الديمقراطية التى تمثلت مظاهرها فى الاحتجاجات الشعبية ضد نتيجة الانتخابات فى عدة ولايات أمريكية، والخطاب الشعبوى لترامب، وعدم قبوله بالنتيجة حال خسارته وعدم قبول مناصرى كلينتون فى نسبة ليست قليلة منهم لفوز ترامب، والنظر إليه على أنه رئيس غير شرعى، فهناك عامل آخر يضرب هذه الديمقراطية فى مقتل إلى الأبد، وهو تدخل الأجهزة السيادية -ربما أيضًا للمرة الأولى- فى توجيه نتيجة الانتخابات، وكأن الولايات المتحدة قد أضحت دولة صغيرة من دول العالم الثالث، فقد ألقت هيلارى كلينتون باللوم على جيمس كومى مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى فى خسارتها للانتخابات، وذلك أثناء مؤتمر عبر الهاتف مع كبار ممولى حملتها الانتخابية، بسبب قراره إرسال رسالة إلى الكونجرس قبل أيام من الانتخابات أعلن فيها إعادة فتح تحقيق فيما إذا كانت المرشحة الديمقراطية قد أساءت التعامل مع معلومات سرية عندما استخدمت خادمًا شخصيًا للبريد الإلكترونى أثناء عملها وزيرة للخارجية فى الفترة من ٢٠٠٩ إلى ٢٠١٢. وبعد أسبوع، أعلن كومى أنه راجع رسائل البريد الإلكترونى وما زال يعتقد أنه لا يوجد ما يبرر توجيه اتهامات إليها، لكن الضرر السياسى كان قد حدث بالفعل، وهو ما يتضح منه أن المباحث الفيدرالية دخلت لاعبًا رئيسيا لإسقاط كلينتون فى الانتخابات بهذه المناورة، وهو ما ستكشف تفاصيله وأسراره الشهور والسنوات وربما الأيام المقبلة.
ولم تكن هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١، ولا الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨، ولا موت الديمقراطية الأمريكية ٢٠١٦ هى الأسباب الوحيدة لأفول الإمبراطورية الأمريكية، بل لا يزال فى جعبتنا أسباب أخرى نتناولها فى المقال القادم.