فجرت القضية الأخيرة الخاصة بنقيب الصحفيين وعضوين آخرين بمجلس النقابة والأحكام القضائية الصادرة ضدهم جدلا واسعا فى أوساط الرأى العام بصفة عامة والوسط الصحفى والإعلامى بشكل خاص، ووجه البعض سهام النقد أحيانا والاتهامات أحيانا أخرى إلى القضاء وإلى القضاة الذين أصدروا الأحكام، مما أثار حديثا حول علاقة الإعلام بالقضاء.
ورغم أن القضاء هو السلطة الوحيدة المخول لها دستوريا إصدار الأحكام إلا أن هناك نوعا آخر من المحاكمات تسمى محاكمات الصحافة والإعلام، حيث تنصب بعض أجهزة الإعلام من نفسها محكمة، تستمع فيها إلى الخصوم والشهود، وتجمع الأدلة وتصدر الأحكام، مما يمثل هذا المسلك الإعلامى شبهة التأثير على الرأى العام الذى يقع فى حيرة من أمره، إذا أصدرت المحكمة حكما لا يتفق مع ما انتهت إليه المحاكمة الإعلامية.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فى عرف بعض رجال الصحافة والإعلام، بل تصل التعليقات الإعلامية أحيانا إلى الإساءة إلى القضاة الذين يتحولون من سدنة العدالة إلى مدانين فى نظر الرأى العام، طالما لم تصدر أحكامهم وفق ما ذهبت إليه وسائل الإعلام فى المحاكمات الإعلامية، وتصبح أمام الرأى العام محكمتان، إحداهما إعلامية يتولاها أفراد لا اختصاص لهم بشئون القضاء، ولا دراية لهم بشئون العدالة وضماناتها.
فالمحكمة الإعلامية فى أغلب الأحوال تعتمد على الإثارة أكثر مما تعتمد على الحقائق، وتتناول القضايا من منظور إعلامى، تحكمه عوامل بعيدة كل البعد عن الإجراءات القضائية، التى تقر منها القوانين فى المحاكمات، ويلتزم بها ضمير القاضى قبل صدور الأحكام، خاصة أن الإجراءات القضائية ليست مجرد ديكور تزين بها جدران المحاكم، بل هى إطار دستورى ملزم للقضاء، وفى مقدمتها ضمان استقلالية وحيادية القضاة، وعدم خضوعهم لأى تأثير خارجى من الرأى العام بواسطة الإعلام.
فدولة القانون التى نسعى إليها جميعا كمصريين لا يستقيم فيها وجود نوعين من المحاكمات، الأولى تديرها أجهزة الإعلام حسب الهوى والرغبات الشخصية، وأحيانا تصفية الحسابات، والثانية تديرها دور العدالة، ويجد الرأى العام نفسه فى حيرة بين نوعين متضاربين من الأحكام، ويؤدى ذلك إلى اهتزاز الثقة فى القضاء، وهو أمر يشكل خطرًا كبيرًا على الدولة المدنية الحديثة التى نحرص على تشكيلها.
فإذا كان الإعلام والقضاء كلاهما من أعمدة الديمقراطية إلا أن كلا من الاثنين يعمل بطريقة مختلفة تماما عن الآخر، لأن الإعلام ينتمى إلى حرية التعبير التى تكفل للشعب مهمة الحوار وإبداء الرأى، والقضاء يؤدى دوره فى حماية الحقوق والحريات، ومنها حرية الإعلام، فإن علاقة الديمقراطية بالإعلام والقضاء تبدو مختلفة فى قيمة كل منهما. ولعل الدرس الأول الذى يتعلمه كل إعلامى فى بداية طريقه هو ضرورة احترام أحكام القضاء، لأن الحكم عنوان الحقيقة، وتجنب التعليق على الأحكام من خلال وسائل الإعلام وشاشات الفضائيات، ولكن هذا الدرس سرعان ما يتبخر لدى بعض المشتغلين بالإعلام والصحافة، خاصة إذا كانت الأحكام القضائية محل التعليق، وليست محل رضا من جانبهم، فيقومون بمحاكمة هذه الأحكام إعلاميا. وواقع الأمر أن الأحكام القضائية كما يعرف رجال الإعلام ورجال القضاء ليست بعيدة عن التعليق القانونى والنقد الموضوعى، ولكن من خلال طرق الطعن التى رسمها القانون، أو من خلال المؤلفات القانونية، وهى قيمة دستورية لا يجوز المساس بها أو التفريط فيها، وعدم النيل من وقار وهيبة المحكمة، كما يحدث أحيانا من جانب بعض رجال الإعلام.
فقضية نقيب الصحفيين ليست الأولى ولن تكون الأخيرة التى تفجر الحديث حول إشكالية تلك العلاقة بين الإعلام والقضاء، ولكن لا بد من الدروس المستفادة من هذه القضية، وأن يمارس كل طرف الدور المنوط به طبقا للدستور والقانون ومواثيق الشرف الإعلامية والصحفية، وأن تتوقف المحاكمات الإعلامية ونقد الأحكام بكلام مرسل واتهامات لا دليل عليها. ولعل أحدى أهم ضمانات الإعلام الحر هو استقلالية القضاء، لأن القضاء المستقل يمثل أهم حارس لحرية الرأى والتعبير، ولا يجوز بأى حال من الأحوال المساس بهذا الحارس من جانب رجال الإعلام والصحافة، خاصة أن فى دولة القانون لا أحد فوق القانون، سواء كان نقيبا أو غير نقيب، طالما أن المحكمة وفرت كل الضمانات لمحاكمة عادلة، ويجب على رجال الإعلام الالتزام بالدستور والقانون، لإظنهم حماة الدستور والقانون، بأقلامهم وبأصواتهم.