هي لحظة تاريخية بامتياز.. عالم أحادى القطب ينزوى ويحل محله عالم جديد قائم على الصراع بين عدة محاور جمَعتها الحرب على التطرف الإسلامى الذى بات خطرًا على العالم وعلى الدين الإسلامى ذاته.
لا يمكن النظر إلى صعود ترامب فى الولايات المتحدة، وفرانسوا فيون فى فرنسا، وربما يمتد الأمر إلى ألمانيا وبريطانيا فى الانتخابات المقبلة، بمعزل عن خوف العالم الغربى من الرِّدّة العكسية للعولمة وما يحمله المهاجرون المسلمون من عادات وتقاليد غريبة على المجتمعات الغربية.. فى الأحياء التى يقطنها المسلمون بالعواصم الغربية تجد لافتات "حلال" ولافتات تطالب بمنع الكلاب من المرور أمام المنزل، ثم كانت معركة الحجاب والنقاب ومآذن المساجد ثم التحدي بتسمية طفل إحدى العائلات المسلمة فى فرنسا باسم أحد منفذى هجمات باريس، ووصل مؤشر الغضب إلى ذروته بظهور "البوركيني" على شواطئ أوروبا وأمريكا.
لقد وقفت مراكز الدراسات الغربية مذهولة أمام خروج أجيال جديدة من المهاجرين المسلمين لتفجر نفسها فيهم أو تقتلهم بدم بارد فى المسارح والحانات، أجيال عاشت وتعلمت فى مجتمعات الغرب المنفتحة، فلا الفقر ولا الإقصاء ولا التعذيب ولا المعتقلات قادت هؤلاء للقتل، ومن ثم سقطت هذه التفسيرات المعلَّبة فى امتحان الواقع والحقيقة، وعاد الغرب للسؤال التاريخى المعلَّق بلا إجابة.. لماذا يكرهنا المسلمون؟
عملية مراجعة واسعة تَجري للمواقف والسياسات الأوروبية والأمريكية تجاه المهاجرين بشكل عام مع الضغوط الاقتصادية وقلة الوظائف وارتفاع تكاليف المعيشة فى لحظة كساد ممتدة، فحديث ترامب عن استعادة مجد أمريكا الصناعية ووقف هجرة رءوس الأموال الأمريكية، وقبلها حديثه عن تطبيق قانون الجاستا على السعودية والحصول على أموال مقابل توفير الحماية لها ولغيرها من دول الخليج الغنية، ثم اتفاق عالمى على ضرورة تجفيف منابع نشر الفكر الوهابي المتشدد والقضاء على داعش وحظر جماعة الإخوان المسلمين حاضنة كل جماعات التطرف العنيف فى العالم، يشير بوضوح لشكل العالم الجديد المتجه للتخلص من الإرهاب العنيف والتوقف عن عملية نشر الديمقراطية التى أشعلت الشرق الأوسط وأخرجت كل الثعابين من جحورها.
تنطلق الرؤية الفرنسية الجديدة فى اعتقادى مما انتهى إليه العالمان الفرنسيان بيير بلان وجان بول شانيولو فى كتابهم المهم "عنف وسياسة فى الشرق الأوسط"، وقام بترجمته الزميل محمد عبدالفتاح السباعى، والتى تتلخص فى وجود استمرار دائرة العنف الإقليمى وما تولَّد عنها من ظهور جماعات عنيفة تريد الوصول للسلطة وأن الدعم السخيَّ الذى تقدمه السعودية وقطر لهذه الجماعات يوفر لها فرصة للنمو والتكاثر بما يهدد استقرار المنطقة والعالم، وهو ما يفسر تصريحات فيون عن حظر الإخوان والضغط على السعودية وقطر لتجفيف منابع التمويل والدعم لهذه الجماعات.
سبق الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، الرئيس ترامب والمرشح فيون فى الوصول إلى تلك المحطة، فلقد خبر فى حرب الشيشان مَن يقف وراء التطرف الإسلامى، وكيف يعرِّض ذلك العالم للخطر، ولذلك كان منطقه ثابتًا فى دعم سوريا خلال صراعها مع الجماعات الإرهابية، فهو يعلم جيدًا أن مزارع تسمين المتطرفين كانت لعبة باراك أوباما الأثيرة فى صراعاته الخارجية، ومبكرًا توقَّع أن ينقلب السحر على الساحر، ثم كان لثورة 30 يونيو وإسقاط حكم الجماعة الإرهابية فى القاهرة السبب فى ظهور وجهها القبيح، العنيف، الفاشىّ والكاره للآخر الدينى، وهو ما تجلَّى فى هجومها على الكنائس ومحاولة هدمها وحرقها، ثم انخراطها فى العمليات الإرهابية ضد الجيش المصرى فى سيناء .
اجتمع الرؤساء الثلاثة على ضرورة تحجيم حركة المال القطرى السعودى الداعم للإرهاب، وكذلك دعم جهود الدولة السورية وانتهاء أزمة بقاء بشار الأسد فى السلطة، مقابل القضاء على الإرهابيين، وهو ما يتفق مع الموقف المصرى، بل يمكن أن نقول إن استراتيجية عالم ترامب فيون بوتين ستقوم على دعم محور تقوده مصر ويضم الجزائر والعراق وسوريا، وهى الدول التى تكافح الإرهاب والتنظيمات الإرهابية المتطرفة فى مقابل محور خليجى تقوده قطر يدعم كل جماعات الإرهاب بالعتاد المسلَّح والدعم الإعلامى ودفع الأموال لشراء السياسيين فى أوروبا وأمريكا.
هذه الاستراتيجية يتضمنها كتاب مايكل فيلين مستشار الأمن القومى الأمريكى الجديد وأحد المقرَّبين من ترامب والذى سمّاه أرض المعركة، وترجمه الزميل عزت إبراهيم مدير تحرير الاهرام.. يقول فيلين فى كتابه إن المواجهة مع قوى الراديكالية الإسلامية ليست دينية، ولكنها ضد التوظيف السياسى من جانب تلك الجماعات الإرهابية للدين، وهناك فارق كبير بين الاثنين، وحدَّد عددًا من الخطوات أهمُّها:
- تدمير الجيوش الجهادية وقتل أو القبض على قياداتها.
- نزع المصداقية عن أيديولوجياتهم والتى سوف تقوى من خلال الانتصارات العسكرية.
- خلق مجموعة تحالفات عالمية جديدة للقرن الواحد والعشرين. وهى تحالفات ستظهر تلقائيًّا فى ظل الحملة العسكرية والسياسية.
- إظهار تحدٍّ حقيقى للأنظمة التى تدعم الأعداء من خلال إضعافهم فى أدنى تقدير والإطاحة بهم متى كان الأمر ممكنًا.
أعتقد أن هذه الصورة هى الأقرب للتحقق، وهو بالتأكيد يحمل أخبارًا سيئة لقطر والقيادات الخليجية التى تحاول حصار مصر والتهجم على جيشها عبر قناة الجزيرة القطرية؛ لأنها ببساطة خسرت كل شىء فى مغامرة الربيع العربى.. لقد أنفقت أموالًا طائلة للتخلص من بشار الأسد وتعطيل بناء الدولة العراقية؛ حتى لا يعود شبح صدام حسين وحاولت تدجين الدور المصرى لصالح المحور القطرى التركى بدعم سعودى.. وفشلها لا يحمل همَّ خسران نقودها فقط، بل قد تدور عليها الدوائر بحسب رؤية فيلين لشرق أوسط جديد خالٍ من المتطرفين وداعميهم.