ونمضى مع رومانسية الوصف الرائع لشلالات نياجرا، فبعد أن يؤكد للشلال «أن وحوش الأمس التى كانت ترتع على شاطئيه أرحم وأجمل من وحوش الرأسمالية، فإنه يقول الأمم تتعادى وتتسلح تأهبًا لاقتتال أفظع من اقتتال الذئاب، والشعوب يأكل فى داخلها كبيرها صغيرها، وقويها ضعيفها، كما تفعل أسماكك»، ينتقل «فرح» فجأة إلى بحث علمى ثورى ويقول «إن روكفلر يملك من المال ألف مليون، بينما ملايين من البشر يستعطون الخبز ولا يجدونه، وهو يستخدمهم بأجور تافهة لزيادة ثروته الملطخة بدمائهم وعرقهم، وهم يسكتون ويعملون لأنهم مضطرون. والسلطة فى الأرض ضعفت وكادت أن تنحل، فالناس أسقطوا العروش والملوك ولكنهم أقاموا مكانها لكل واحد منهم ملايين من الرؤوس. فقويت بذلك سلطة المشعوذين والدجالين والجهلاء الناصحين الذين يتملقون الشعوب ويضللونهم، كما كان أمثالهم القدامى يتملقون الملوك. والأفراد يتخاصمون ويتعادون، ويفترس بعضهم بعضًا بأيديهم وألسنتهم وأقلامهم تنازعًا على المال والسيادة، وقبح هذا المال وهذه السيادة، فإذا كان كل هذا هكذا، أيها الشلال، فأين الارتقاء الذى يزعمونه؟ وما فائدتك فى استبدال ذئابك القديمة بهذه الذئاب الجديدة التى لها طباع تلك». هكذا وصف فرح أنطون المجتمع الرأسمالى، فهو لم ينبهر بأمريكا ولا بتقدمها لكنه نفذ إلى عمق المجتمع الجديد وطبيعته المتوحشة، وقام بنزع الطلاء الخارجى البراق لهذا المجتمع ليجد تحته جيفة الرأسمالية النتنة، وأسلوبها الوحشى فى افتراس البشر. وقد وصل الأمر إلى أن قال لطفى جمعة فى خطابه لتأبين فرح «إن مقاله عن الشلال من أقوى وأجمل وأنفع ما كُتب فى العالم بأية لغة من اللغات». وكثيرًا جدًا كان فرح أنطون يمزج رومانسيته بثوريته فهو يكتب متوجها إلى «العذراء» (رمز العقل) يقول «فى عروقك يا أيتها العذراء الجميلة شيء من دماء شرقية، فنناشدك بحق حرمة هذا النسب القديم أن تبعثى إلى الشرق جدك القديم شيئًا من سناء نورك العظيم. علمينا أن ننسى أهواءنا، ومصالحنا الخصوصية وأن نضع أنفسنا فى خدمة المصلحة العمومية، علمينا أن نجهر بمعتقداتنا أيًا كانت وألا نخاف من قوات الأرض والسماء. لئلا نكون خونة لك وضعفاء وجبناء، أفهمينا معنى الحق والعدل والواجب والعقل لنتخذها نجومًا تهدينا فى ظلمات هذه الحياة.. افتحى عيوننا لنرى أننا فى طلبنا الإصلاح فى الشرق يجب أن نكون مخلصين قلبا وقالبا، مهتمين بالجميع وليس بفئة واحدة، وإكمالًا لهذا الإصلاح امنحينا أيتها الآلهة القادرة تلك الروح التى لا خلاص لنا بدونها وهى روح التساهل المطلق بما يعنى إعطاء جميع الآراء والأفكار حق الظهور فى الشرق بين الناس لتكتمل بذلك الحركة الشرقية تمهيدًا للنتائج العظيمة التى نرجوها» (الجامعة - السنة الرابعة - عام ١٩٠٣ - العدد ٦ و٧ و٨. ص ٣١٥). وخلال وجود فرح فى أمريكا وقع الانقلاب العثمانى الشهير فهزه من الأعماق واستحثه إلى العودة سريعًا. فها هو الشرق يتحرك ولا بد أن يعيش هذه الحركة بنفسه وعاد إلى مصر وفى طريق عودته التقى فى باريس محمد فريد واتفق معه على أن يشارك فور وصوله فى تحرير صحف الحزب الوطنى، وانطلق قلم فرح أنطون ليكتب بلا ملل فنشر مقالات متتالية فى البلاغ - واللواء - ومصر الفتاة - ومصر - والوطن وغيرها.. والتهبت كتاباته بالعداء للاستعمار وبالدفاع عن مصالح الشعب. ويقول لطفى جمعة فى خطاب تأبينه «وكنت يا فرح فى كل جريدة من هذه الجرائد تدافع عن الحق وعن الوطن، ولم يتحول ذهنك يوما ولم يتغير رأيك ساعة، كنت تكتب بإخلاص وتنصر الحق أينما كان فانتصرت للوطن فى نضاله وللعمال فى إضرابهم وللشعب على السلطة وللحق على القوة وللمحكومين على الحاكم المستبد» وكانت مقالات فرح من الشدة والعنف بحيث اشتهر بأنه المتسبب بعنف مقالاته فى إغلاق العديد من الصحف. ويتندر الناس بقصة مقال وحيد كتبه فى جريدة «مصر الفتاة» فأغلقها، فقد مرض توحيد بك السلحدار رئيس تحريرها فناب عنه فى تحريرها للصداقة التى كانت بينهما فكتب فيها مقالًا تسبب فى أن أمرت الحكومة بإغلاق الجريدة إغلاقا نهائيا دون إنذار.
وظل فرح يكتب فى أكثر من جريدة فى اليوم الواحد فى الأهالى والمحروسة وغيرهما وكان يكتب فى كل منهما أكثر من مقال. ويتحدث نقولا حداد عن هذه الفترة قائلًا «بعد عودة فرح من أمريكا انتقل من دور العلم إلى دور العمل فكتب مقالات من نار.. وتحول تمامًا إلى السياسة حتى حسبت السلطة له حسابا». فقد استقر ذهنه أن مصر أصبحت محور نهضة الشرق كله فقرر أن يسهم بحماس ثورى متقد فى هذه النهضة..
واشتهر بأنه يغلق كل جريدة يكتب فيها..
ونواصل