هذا عندى هو الفيلم الأحسن فى كل العالم الذى شاهدته فى ٢٠١٦. وسيبقى بكل مقاييس التفكير الجاد والتعبير الأخاذ ضمن أحسن الأفلام فى كل السينما، ولن ينسى أبدًا. إنه الفيلم التسجيلى الطويل للمخرج الأمريكى النابغة مايكل مور «أين الغزوة المقبلة» where to invade next (١١٩ دقيقة).. فأنت لن تمل أبدًا على مدى المشاهدة، بل ستظل تحتفظ بدرجة الشغف طول الوقت، وتكاد تقول عند انتهاء الفيلم: هل من مزيد!؟... إذ يجوب «مور» بعض بلدان العالم، ليختار أجمل ما فيها، أجمل ما فى العالم، مقارنًا ومشيرًا باستمرار إلى أن هذه الإيجابيات والمنجزات الإنسانية غير متحققة فى بلاده الولايات المتحدة، على الرغم من سمعتها ذائعة الصيت كبلاد للحلم (الحلم الأمريكي!).. إن مخرجنا يكشف زيف هذا الحلم وما آل إليه، ويكاد فيلمه يجهز عليه!.
ويستخدم مايكل مور كمخرج وأيضًا كاتب لسيناريو الفيلم، تيمة طريفة جذابة، كلما وجد فى بلد ميزة وقيمة متحضرة إنسانية.. إنه سيغزوه ليجلب إلى بلاده هذه الميزة والقيمة، وفى كل مرة يرشق العلم الأمريكى فى قلب كل مكان يحبه، مازحًا مداعباً!. إنه يرى فى بعض البلدان مثل إيطاليا حقوقًا للعاملين غير موجودة فى بلاده، سواء من حيث تحديد ساعات العمل، أو مشاركة العمال فى مجالس إدارة المؤسسات، أو أسابيع العطلة الممنوحة والتى تصل إلى ثمانية أسابيع فى العام، ومع ذلك فإن معدلات الإنتاج هناك لا تقل عنها فى أمريكا وإنما تزيد..!. ويذهب إلى فنلندا مثلًا، ليكتشف نظام تعليم مختلف تمامًا عما تعرفه بلاده، وحيث أعلى نسبة تفوق لتلاميذ يتعلمون، وأيضًا أسعد تلاميذ بحياتهم داخل المدارس، وحيث ساعات دراسة أقل، وعناية بالكيف فيها أكبر، فضلًا عن مجانية كل مراحل التعليم بما فيها المرحلة الجامعية.. وحيث نرى طالبة هناك، أتت من أمريكا بسبب تكاليف التعليم التى لم تقدر عليها وأصبحت هانئة بمناخ تعليم أفضل وميسر!.. دعنا نلاحظ أنه يتحدث هنا عن أمريكا.. بلد القوة والاقتدار الكبرى فى عصرنا، ما يجعل المشاهدين من مصر وما يماثل ظروفها حاليًا، يردد بين الحين والآخر وهو يشاهد: إذا كان هذا الحال مع أمريكا.. عند مقارنتها بهذا الوضع أو ذاك من كوكب الأرض، فما بالنا ببلادنا!!.
والحق أن مايكل مور، فى تقديرى، لم يكن يخاطب الجمهور الأمريكى فحسب فى هذا الفيلم.. بل كان يخاطب الإنسانية والعالم: إن هذا ما يجب أن يكون عليه الحال فى كل أنحاء العالم الإنسانى.. من حيث حقوق العاملين هنا، أو نوعية ومناخ التعليم هناك، وتوفره للجميع دون أى عائق من تكاليف، فضلًا عن اشتراك المدارس والجامعات كلها فى نفس المستوى وطريقة التعليم من دون فوارق، وكذلك المجانية فى شأن العلاج والصحة.. وهو يذهب أيضًا إلى فرنسا وألمانيا والنرويج والبرتغال، كما يذهب أيضًا خارج أوروبا إلى شمالنا الإفريقى العربى حيث تونس، التى تحافظ على حقوق ومساواة حقيقية للمرأة، رغم ظروف كثيرة معقدة، راصدًا كذلك بمحبة ودراية مشهد الثورة فيها.
تعبر إحدى الشخصيات الكثيرة التى يلتقيها مور عبر الفيلم، ويتحدث معها بطريقته السلسة وروحه الجميلة.. تقول مشيرة إلى العدالة والحقوق المتوفرة فى بلادها، نافية ما معناه أن ذلك ينطلق من نوع أيديولوجية محددة مغلقة أو تنظير اشتراكى جامد.. وإنما الأمر هنا حسب تعبيرها هو السعى من أجل حقوق (المجتمع الصالح).. نعم هذا هو مفهوم الفيلم ورسالته، بل إن فيلم «أين الغزوة المقبلة؟» فى نظرى، بما قدمه مور فيه، وعلى النحو الذى أبدعه عبر مشاهد الفيلم الحافل، هو مانفيستو وبرنامج مايكل مور من أجل تحقيق (المجتمع الصالح) لكل الإنسانية وفى كل بلدان العالم وليس الوطن الأمريكى فحسب... ولذلك فإن هذا الفيلم يخاطب وجدان وعقل كل إنسان، على وجه هذا الكوكب.
يعقوب وهبى.. سلاما
هكذا رحل (يعقوب وهبى).. وحينما ذهبنا إلى عزائه (١٨ نوفمبر ٢٠١٦)، لم يكن هناك سوى قليلين من زملائه.. وهو الناقد الكبير المتفانى من أجل مستوى رفيع للسينما والفنون فى بلاده.. كنت أحدثه مرارا وأقول له: لقد اهتممت وبذلت أقصى الطاقة من أجل تجميع كل ما كتبه الناقد الكبير سامى السلامونى فى مجلدات.. هذا راق ونبيل وضرورى. ولكننا نتمنى أن تعكف أيضًا على تجميع مقالاتك ودراساتك، وكم هى ممتعة ونافعة للدارسين وجمهور المتذوقين لفن السينما على السواء.. فكان يبتسم وينظر لى نظرة أب حانية، ويعد فى كل مرة أنه سوف يفعل.. لكن كان دوما، يغلب على «يعقوب وهبى»: طابع التواضع والحياء، وإنكار الذات.. وها هو الرجل الكبير، رقيا ونبلا ومقامًا.. يرحل فى صمت.
فهل تعوض جمعيات ومؤسسات الثقافة والسينما فى مصر الأمر.. وتعطى اسم وقيمة يعقوب وهبى بعض حقه من التكريم والتقدير اللذين بهما هو جدير؟.