لا شك أن محاولاتنا بناء «دولة مدنية حديثة»، لا ينبغى لها أن تنشأ فى فراغ، منفصلة عن قواعدها المتعارف عليها؛ إذ نحتاج إلى سياقات محلية وإقليمية ودولية، نستلهم منها خطواتنا، ونصحح من خلالها أى خلل يمكن أن يطرأ على توجهاتنا؛ وبموجبها أيضًا ندرك حقيقة موقعنا على طريق التحول الديمقراطي، باعتباره المنطلق الأول فى «بناء الدولة الحديثة».
من هنا يجدر بنا مواصلة الحديث عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لما تقدمه لنا من نموذج شديد الدلالة على «التعددية السياسية» الواجبة فى «الدولة المدنية الحديثة»، وأسس التنافس فيما بينها، وجوهر ارتباطها بالديمقراطية، كثقافة مجتمعية شاملة. وفى ذلك أشير إلى ما يلي:
الحزبان الرئيسيان فى الولايات المتحدة الأمريكية، الديمقراطى والجمهوري، هما الأكثر قوة، لكنهما ليسا وحدهما على الساحة، فهناك العشرات من الأحزاب الصغيرة، غير الممثلة تقريبًا فى الكونجرس الأمريكي، بغرفتيه، النواب والشيوخ؛ ومن ثم تسقط دعاوى البعض إلى اختصار باتر لعدد أحزابنا السياسية قياسًا على وجود حزبين فقط فى الولايات المتحدة الأمريكية، مع النظر بعين الاعتبار للاختلاف البين بين دولتنا المركزية والدولية الأمريكية الفيدرالية مترامية الأطراف متعددة الثقافات. كما أن اختزال الأحزاب المصرية ينبغى أن يمر عبر تراكم من الممارسات الديمقراطية التى على إثرها تندمج أحزاب، وتختفى أخرى، وتتراجع غيرها إلى ما يشبه الأفكار المتناثرة هنا وهناك. وعليه؛ ففى سعينا إلى بناء نموذج وطنى يحاكى «الدولة المدنية الحديثة» التى عرفها المجتمع الدولي، لا يجوز أن نختصر الطريق أمام الأدوات الديمقراطية وأثرها الطبيعى فى تطور الحياة السياسية.
الحزب السياسى يُقاس تواجده فى الشارع بمدى ما يمتلكه من قناعات لدى جموع الشعب، وانتشار قيمه ومبادئه، وليس بعدد أعضائه؛ ولا بعدد مقراته فى كل مدينة أو قرية. فليست أغلبية الملايين التى صوتت للجمهوريين والديمقراطيين مؤخرًا فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية من أعضاء الحزبين الكبيرين؛ وإنما هم من أنصار أفكارهما ومبادئهما، وربما كان ولعًا بشخصيات تاريخية انتمت لها يومًا ما. هذا إلى جانب ما توفره السياسات المعروضة أمام الناخبين من مصالح لفئات أو تيارات بعينها.
تحتل المناظرات الانتخابية حيزًا كبيرًا ومهمًا داخل العملية الانتخابية الأمريكية. ومن هنا تلقى اهتمامًا بالغًا من الشعب، ومن العالم بأسره؛ إذ تُفصح عن مكنون السياسات التى يحملها كل مرشح فى جعبته، والأفكار التى يختزنها لمعالجة القضايا الوطنية الأمريكية، وانعكاساتها على ما سيتبعه من سياسات خارجية. وفى المناظرات الرئاسية الأمريكية تتسع مساحات الجدل، وتُطرح الآراء بوضوح يصل إلى حد توجيه اتهامات مباشرة للمنافس، ولا حصانة فيها للحياة الشخصية، لأنها جزء من الشخصية المنوط بها حكم أمريكا. ومن هنا كانت السمات الشخصية، لهيلارى كلينتون ودونالد ترامب، حاضرة بقوة، ولم يواجه الخوض فيها من قبل المراقبين ووسائل الإعلام بالاستهجان، وإبرازها فى إطار من العمالة والخيانة وتشويه صورة أمريكا فى العالم!.
الانتماء الحزبى فى الولايات المتحدة لا يُعد معيارًا حاكمًا فى العملية الانتخابية، مثلما هو أمر غير مؤكد فى الكونجرس الأمريكي، وقد أعلن الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش الابن أنه ترك بطاقته بيضاء، ولم يصوت لصالح المرشح الجمهوري دونالد ترامب. وزاد عدد غير قليل من انتقادهم لترامب إثر تصريحات أدلى بها فى سياق حملته الانتخابية، ميزته بالعنصرية. فضلًا عن مجموعات كبيرة، من الجمهوريين، طالبته بالانسحاب بعد ظهور أحاديث إعلامية قديمة رأوا أن ترامب انتهك فيها بوضوح كرامة المرأة، إلى جانب ما تثيره من علامات استفهام حول مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية فى ظل حكمه، بعد ما أثاره من ردود أفعال غاضبة داخل الأقليات فى المجتمع الأمريكي. فيما عبرت هيلارى كلينتون، أثناء الحملة الانتخابية، عن أن ترامب هو المرشح الرئاسى الأخطر فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن الرغبة فى «التغيير» عارمة فى المجتمعات المؤمنة بحق «بالدولة المدنية الحديثة»، فكان ترامب اللافت للانتباه والدهشة، والمثير للقلق.
على خلفية ما سبق، وفى تأكيد لمؤسسية الدولة، وحتمية سيادة القانون، وغلبة قواعد العملية الديمقراطية، والتداول السلمى للسلطة، كسمات رئيسية فى «الدولة المدنية الحديثة»، انخرط الجميع تحت لواء ترامب فور إعلان فوزه رئيسًا للبلاد، فهنأه الجميع، ووضعت هيلارى نفسها فى خدمة البلاد بالتعاون معه، واستقبله أوباما فورًا وتمنى له النجاح فى مهمته الكبيرة، وأعلن أن شغله الشاغل فى الفترة الباقية له فى البيت الأبيض إنما ينصب على إجراء تسليم سلس للسلطة. كم سارعت المخابرات الأمريكية بإطلاع ترامب على العديد من الأسرار الكبرى للبلاد. وأعلنت وزارة الخارجية أن لا شيء يمنع ترامب من إلغاء الاتفاق النووى الإيرانى الذى وقعه أوباما فى إطار صيغة «٥+١»، «الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن ومعها ألمانيا».
لاحظ الجميع اتزان وتقليدية خطاب الفوز الذى ألقاه ترامب فور إعلان فوزه، حتى قيل، من جانب كثير من خبراء السياسة الأمريكية، إنه لو كان قد تحدث بهذا الشكل أثناء حملته الانتخابية، ما كان قد نجح. وفى ذلك إشارة إلى أن الناخب الأمريكى أراد بانتخاب ترامب تغيير النمط السائد فى مؤسسة الرئاسة الأمريكية، فضلًا عن أن هيلارى شخصية قديمة على الساحة، زوجة للرئيس الأسبق كلينتون، ووزيرة للخارجية مع أوباما لعدة سنوات؛ ومن ثم خطابها لا يحمل جديدًا يُرضى طموح الناخب الأمريكي، رغم ما تحقق من طفرات اقتصادية فى عهد زوجها كلينتون، وما نجح فيه أوباما مؤخرًا من رفع للمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الأمريكية إلى مستويات جيدة بالفعل.
نخلص من ذلك أن «الخطاب السياسي» شديد الدلالة على وضعية النظام الحاكم لدى شعوب «الدول المدنية الحديثة»، ومن خلاله يمكن قياس مستقبله السياسي. وبموجبه يمكن بلورة رؤية استشرافية لمستقبل البلاد معه، بعيدًا عن كثير من العواطف الجياشة التى لا محل معتبرًا لها فى النظم السياسية الديمقراطية. بل إن ثقافة التغيير قطعًا تمثل ملمحًا رئيسًا فى الثقافة السياسية المتبعة فى «الدول المدنية الحديثة». برؤية تحمل قصورًا معيبًا فاضحًا، ليس هو إلا نتاج خطايا حياتنا السياسية، وتراكماتها الرديئة، انطلق البعض يبشر بتوافق كبير بين مصر السيسى والولايات المتحدة ترامب. غير أن إدراكًا حقيقيًا لكثير من الملفات السياسية الإقليمية يدفع بنا إلى رؤية أكثر موضوعية. ننطلق إليها إذ نؤكد أن مؤسسية النظام الأمريكى لن تسمح كثيرًا لقفزات ترامب فوق المعتادة. مثلما تحيط الشكوك بمستقبل العلاقات المصرية الأمريكية فى ظل رؤية ترامب تجاه الصراع العربى الفلسطيني، وتشدده الواضح تجاه دول الخليج، كما فى انحيازه الفج للمصالح الإسرائيلية، حتى بات، أقل من المتوقع مع ترامب، عقد التسليح الأمريكى القياسى الأخير مع إسرائيل، والذى أتمه أوباما مؤخرًا بقيمة تفوق ٣٨ مليارًا من الدولارات، وقيل بشأنه إنه هدية لجماعات الضغط الصهيونية فى الولايات المتحدة لتدعم المرشحة الديمقراطية، وهو أمر أيضًا صادفه تبسيط مُخل؛ إذ علينا أن نعترف بأن الدعم الكامل لإسرائيل يخرج عن أى مزايدات سياسية أمريكية؛ إذ الكل يؤمن بقوة بدعم إسرائيل وضمان تفوقها، كجزء أصيل من الأمن القومى الأمريكي؛ ومن ثم لا محل للمجادلة فيه.
على هذا النحو نؤكد أن «الدولة المدنية الحديثة» لا بد أن تكون قادرة على صياغة رؤيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بوحى كامل من ظرفها المحلي، وإدراك تام بحقيقة السياقات الإقليمية والدولية المحيطة بها.
لتنطلق وتنتظم برؤية وطنية فى حركة المجتمع الدولي، معتنقة أفكاره وقيمه العالمية، مستفيدة بجميع عناصر قوتها الشاملة. استنادًا إلى سيادة نظرية القوة فى العلاقات الدولية المعاصرة؛ فإن لم نفعل نبنى «دولتنا المدنية الحديثة»، دون وعى كافٍ، بأن أمننا القومى ما عاد يسمح لنا بتكرار أخطاء الماضي، القريب والبعيد. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.