السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

حياة لا حياة فيها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الساعة الثامنة صباحا بغرفة تشغيل برامج رئيسية، ملحقة بإدارة «نظم ومعلومات» داخل مبنى عملاق بهيئة حكومية كبيرة، مكونة من خمسة مكاتب، يسكنها عشرة أفراد، يتولون العمل على خمسة أجهزة للحاسبات الآلية.
يتهيأ أحد الزملاء لأداء صلاة الضحى، ويستمر آخر فى تلاوة آيات من القرآن الكريم بصوت صاخب، شارخ، يَفِحُّ رتابة، قسوة، يواكبه انغماس بقية الزملاء فى ثرثرة عبثية فى كل ما هو تافه وسطحى وسخيف.
ينتهى الزميل من التلاوة، ليدخل طرفا أصيلا فى الضجيج، الذى يصاحبه تلاوة قرآنية أخرى صادرة عبر مكبرات صوتية مدوية، متصلة بجهاز الحاسب الشخصى الكائن بغرفة مدير الإدارة الغارق فى أوراقه، متعففا، متأففا، فاتحا دوما مصحفه، شاردا، غائبا فيه.
وأثناء تناول وليمة الإفطار الجماعية، واحتساء مشروب الشاى بالحليب مع «البقسمات»، تنتفض فزعا فى ضراوة صرخة هائجة، تطعن طنين هـذا العبث الموحش، تطوعا منها لأداء «آذان الظهر»، لامتهان وانتهاك حلاوته وعذوبته.
ينتهى الزملاء الأَّكْفَاء من استئناف طقوس الوضوء المعتادة، وأداء شعائر صلاة الجماعة، لتتوالى مجددا ولا محالة أحداث الانخراط فى «قزقزة» اللب و«قرقشة» الفول السودانى و«قرمشة» الفول الأخضر.
يعقب ذلك مباشرة بث يومى حافل لقنوات «فضفضة» المتخصصة فى استجلاء ثلاثة محاور رئيسية وهى «ذكريات أليمة لا تغيب، وفتاوى وأحكام تقدمية، وحوادث وقضايا حيوية»، تحررها عقول حالكة الظلمة، تستجليها المناقشة التحليلية، وفق رؤية استراتيجية تحليقية، فيما يتعلق بموضوعات فى غاية الأهمية هى «تأملات عامة فى سكرات الموت، وشواهد مفارقة الروح للجسد، ورهبة جلسات تحضير الأرواح، وشقاء تخليص الجسد المسكون من الجان، وإجراءات تغسيل وتكفين ودفن الموتى، وحكم مشروعية حضور الزوج مراسم تغسيل الزوجة، ونعومة ضرب المرأة الناشز، وجحيم عذاب القبور، ورهبة عفاريت منتصف الليل، وبشاعة حوادث العمارات والعربات والقطارات، وفك رموز الأحلام وخبايا الأوهام، وتفاصيل جريمة قتل مروعة داخل مشرحة مستشفى قصر العينى، ولغـز استدراج طفلة عمرها سبع سنوات، وتفريغ جسدها من جميع أعضائه البشرية، وسيناريو اغتصاب طفلة عمرها ثلاث سنوات، وشذوذ اعتداء مدرس على طفل عمره ثمانى سنوات، ورفض التحريض على رَشْ مختلف العطور الشيطانية خارج أبواب المنازل الأسمنتية، والدعوى الصارمة إلى نزع جميع الصور الإنسانية التى تكسو أسطح الجدران الإنشائية، والرغبة العارمة فى ضرب رقبتى «إقبال بـركة» و«نوال السعداوى» معا بسيف نافذ وباتر، لانحرافهما عن السياق الدارج والمألوف، وشق الحدود الفاصلة والعازلة بين المسلم والمسيحى، واختراق المعقول بين مخلوقين، متساويين، متكاملين، هما «الرجل والمرأة» ليتحولا بقدرة قادر فى لحظة إلى «السيد والعبد»، لمناهضة التعسف فى حرمان شتى «جنس الحريم» من ذل سجون العبودية القمعية، إيمانا بحق ولوجهن باب «الجنة» بعد منحهن تأشيرة فريدة من «الزوج الفاضل» أو «صاحب العزة» أو «مترع الرحمة» أو «بالغ الكرم»، لتدنى فهمهم البائس لقوله تعالى «الرجال قوامون على النساء»، و«فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع»، وقول الرسول الكريم: «ناقصـات عقل ودين» و«خلقـن من ضلع أعـوج» و«لـن يفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة» و«لو كنت آمرًا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، و«أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة»، وتعزيزًا أمينًا لإرهاصات مسلسلى «الحاج متولى» و«فواز الصياد» ودُمْياتهما الأربع، كحلين مثاليين، ومنقذين؛ للخروج من مأزق إشكالية الانحسار الساحق فى إجمالى «عـدد الذكور» مقارنة بالانفراج المذهل فى إجمالى «عـدد الإناث»، طبقًا للمؤشرات النهائية لإحصائيات التعـداد البشرى، وانتهاءً حميدًا إلى غرس قيم احترام قـانون ستر جسد المرأة تمامًا، بلفه كاملاً فى السواد الأعظم؛ لعدم الفتنة.
إنه تطبيق مؤسف ومخجل لنص معاهدة التحالف مع قوى الجهل، والتخلف، والقهر، والاستغلال، وتحصين واق ضد الاستنارة بمباهج الفكر، وأفراح المعرفة، وجواهر الخيال، ولآلئ الإبداع، وكنوز التجديد، ونفائس الحداثة، وشغف ما بعد الحداثة.
عفوًا.. زملائى مؤهلات جامعية عليا..! لكنهم لا ينصتون إلى همس الطبيعة، لا يلمسون تناغم المخلوقات، لا يرون جمـال الأشياء، لا يدركون هاجسًا للوجود!!
زملائى.. لا يفكرون، لا يناقشون، لا يختلفون، لا يحللون، لا ينقدون، لا يحبون، لا يحلمون، لا يتخيلون، لا يغنون، لا يرقصون!! 
زملائى.. لا يفهمون الشعر، لا يسمعون الموسيقى، لا يتذوقون الأوبرا، لا يتأملون لوحة، لا يُقدِّرون قيمة التماثيل فى المتاحف والميادين، لا يحترمون فن الباليه!! 
زملائى.. يعتبرون كل ذلك مـن المحرمات! وأتساءل: أليس هذا نوعا من البكاء على حياة لا حياة فيها؟! 
فى النهاية.. أصبحت أرتعد خوفًا من فكرة الاستيقاظ مبكرًا، لأتوجه إلى مكتبى، عفوًا مقبرتى، التى قُدر لى أن أقهر جسدى يوميًا للعمل به، لأتلقى يوميًا واجب العزاء فى نفسى.