عزيزى القارئ لا تعاود قراءة العنوان مرةً أخرى، نعم نحن بصدد حدث ضخم، وهو أُفول نجم الإمبراطورية الأمريكية الذى بزغ فى أُخريات الحرب العالمية الثانية ومعها الاتحاد السوفيتى القديم الذى انهار أيضًا فى أوائل عقد التسعينيات من القرن الماضى، والإمبراطوريات لها دورة حياة ولها مشارق ومغارب، وإلا لما كنا على مدار التاريخ شهدنا مولد وممات الإمبراطوريات، بدءًا من الفرس والروم، ثم الإسلام، ثم إسبانيا والبرتغال فى عصر الاكتشافات الجغرافية، فالإمبراطورية العثمانية ثم إنجلترا وفرنسا، وأخيرًا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، لتبقى الإمبراطورية الأمريكية هى الباقية بعد اندثار الاتحاد السوفيتى القديم وتمزق جمهورياته.
والدولة الإمبراطورية هى التى تكون لها من مقومات القوة المتراكمة، ناعمة أو مسلحة، ما يجعل تأثيرها قويًا ومترامى الأطراف خارج حدودها القومية، ربما باتساع خريطة العالم كله، وهى من يقع على عاتقها التوازنات الإقليمية والدولية على الخريطة العالمية، بما يخدم مصالحها، وهى التى بإمكانها إدارة الصراعات الدولية بشكلٍ متوازن وفقًا للأدوار الإقليمية والدولية المرسومة لكل لاعب فى النظام الدولى والإقليمى، وهى التى يمكنها التدخل عسكريًا لحسم بعض المشكلات فى المناطق الساخنة من العالم، والأهم من هذا كله، أن مثل هذه الدولة الإمبراطورية هى التى تتمتع بالهيْبة التى لا تجعل أيًا ما كان يجرؤ على الاعتداء عليها، كما ينبغى لها أن تتوافر لها القدرات المالية لتطبيق سياستها على خريطة العالم، لأن أى عجز مالى لديها سوف يقلص من دورها، ويؤدى إلى تراجعه وانحساره، بشكل قد يؤدى فى النهاية إلى ذبولها وأفول نجمها إلى الأبد، لتحل محلها إمبراطورية أخرى كبرى أو مجموعة من الإمبراطوريات الصغرى فى الإمكانات والـتأثير.
وأُفول الإمبراطورية الأمريكية فى الحقيقة بدأت بوادره مع هجمات الحادى عشر من سبتمبر ٢٠١١، وهى تلك الهجمات التى نالت من هيبتها وقوتها العسكرية ونظامها الدفاعى الذى اخترقه عددٌ من الإرهابيين الذين جاءوا للتو من «تورا بورا» بكهوف أفغانستان، ليتعلموا الطيران فى الولايات المتحدة، ولينفذوا عمليتهم التى نتج عنها سقوط هيْبة الإمبراطورية الأمريكية، ومعها البرجان الشهيران و٤٠ ألف قتيل، بعد أن كانت هذه الإمبراطورية محصنة على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطى، ولم تستطع أى قوة عسكرية أن تنال منها منذ هجوم المقاتلات اليابانية على ميناء بيرل هاربور أثناء الحرب العالمية الثانية، التى انتقمت فيها الولايات المتحدة من اليابان بإسقاط أول قنبلتيْن نوويتيْن على هيروشيما ونجازاكى، لتصبح الولايات المتحدة إمبراطورية عظمى على أنقاض المهزومين فى الحرب العالمية الثانية، وتتحول هذه الإمبراطورية إلى كيان هلامى، مع سهولة اختراقها من مجموعة إرهابيين مغامرين فى ١١ سبتمبر ٢٠٠١.
ومن ناحية أخرى، فإن الأزمة المالية العالمية التى ضربت الولايات المتحدة والعالم عام ٢٠٠٨، أثبتت أن مصدر القوة المالية فى هذه الإمبراطورية يمكن ضربه، ومن الممكن لأية أزمة مالية أو اقتصادية أن تنال من هذا المركز المالى فى أى لحظة، ولولا تدخل الحكومة الفيدرالية بضخ تريليونى دولار فى النظام المصرفى الأمريكى لانهارت الولايات المتحدة، وهى المرة الأولى التى تتدخل فيها الولايات المتحدة فى الاقتصاد الرأسمالى بهذا الشكل السافر، ولعل الأزمة المالية العالمية هى التى ألقت بظلالها على الدور الخارجى للولايات المتحدة فى دول العالم المختلفة، ومحاولة انكفائها على أحوالها المالية المتردية، ما أدى إلى التراجع النسبى لدورها الفاعل على مستوى العالم.
أما ما حدث فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة، ودوره فى أُفول نجم الإمبراطورية الأمريكية، فهو كبير ومتشعب، ويتطلب قراءة عميقة لكل مجريات هذه الانتخابات، إلا أن أول ملاحظة فى هذه السبيل هى سقوط أهم قيمة من القيم الأمريكية «American Values» فى هذه الانتخابات، وهى قيمة الديمقراطية، وقد يتحدث البعض عن انتقادات معمقة نالت من الديمقراطية التمثيلية «Representative Democracy»، وعدم قدرتها على تمثيل الشعوب، لدرجة أن تحولت الديمقراطية إلى حكم الأقلية بدلاً من حكم الأغلبية، ولذلك تم طرح مفهوم جديد للديمقراطية التشاركية «Participatory Democracy»، لمعالجة العيوب الكامنة فى الديمقراطية التمثيلية.
وأيًا كان الأمر، فأنا لا أناقش أمرًا جدليًا بل أقول إن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة قد شهدت موتًا إكلينيكيًا للديمقراطية بمعناها العام، وهى القيمة الكبرى التى نشأت عليها الولايات المتحدة وتُبَاهى بها العالم، وتمثل هذا الموت الإكلينيكى للديمقراطية الأمريكية فى تلك الاحتجاجات التى نشأت فى عدد غير قليل فى المدن والولايات، ربما لأول مرة فى التاريخ الأمريكى، وهو أسلوب احتجاج لا يحدث سوى فى دول العالم الثالث الذى يشهد تزويرًا فى الانتخابات، وعدم القبول بالهزيمة فيها، بل إن اللافتات التى رفعها المحتجون «ليس رئيسى» «NOT MY PRESIDENT» هو أسلوب اخترعته «جماعة الإخوان» فى مصر من قبيل «مرسى رئيسى» و«السيسى مش رئيسى»، فصدرت الجماعة شعاراتها للداخل الأمريكى بعد سقوط مرشحتهم المفضلة هيلارى كلينتون، بعدما أفصح ترامب عن نيته بإصدار قانون لتصنيف الجماعة بأنها إرهابية، بل وشاركت الجماعة فى مظاهرات ولاية نيوجيرسى ضد فوز ترامب، رغم أنه جاء بالصندوق ووفقًا لنظام انتخاب ديمقراطى، إلا أنهم شاركوا مع الأمريكيين المحتجين ضد الديمقراطية.
ولم يكن المظهر الوحيد لموت الديمقراطية فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة هو الاحتجاج على نتيجة الانتخابات بل كانت هناك مظاهر أخرى نستعرضها فى المقال القادم.