صحيح أن نجاح دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية قدم نموذجا حيا لوعى الشعوب التى عاشت التجربة الديمقراطية لسنوات طويلة؛ فقد أثبت الشعب الأمريكى قدرته على تحديد مصيره واختيار من يقوده رغم كل ما تعرض إليه من محاولات للتضليل والتزييف من قبل كل مؤسسات الدولة تقريبا.
ما جرى فى العملية الانتخابية برمتها يؤكد أن مؤسسات الدولة الأمريكية بحد ذاتها لا تعمل وفق مبادئ وقواعد الديمقراطية، القائمة بالأساس على عنصرى النزاهة والشفافية. الديمقراطية كما تعلمناها لا تُختصر فى الصندوق إذ لا بد من شروط تخلق المناخ الديمقراطى، من أهمها حياد جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية، وعدم تدخلها بأى شكل للتأثير على توجهات الرأى العام وإتاحة فرص متساوية لجميع المتنافسين على مراكز السلطة تشريعية كانت أو تنفيذية.
غير أن أكثر الشروط حساسية وأهمية والتى يعكس وجودها مدى إيمان النظام السياسى بالديمقراطية كطريقة للتغيير وتداول السلطة، أمانة ونزاهة مراكز الأبحاث العلمية ومعاهد بحوث دراسات الرأى العام.
إذ تعكس نزاهة هذه المؤسسات مدى إيمان المجتمع المدنى والنظام السياسى بقدرة الجماهير على التصويت للخيار الأنسب لمستقبل أوطانها، وتأخذ المؤسسات العلمية مكانة مهمة فى المجتمعات المتقدمة مثل المجتمع الأمريكى، خاصة أنها تلعب دورا أساسيا يتجاوز تقدم المجتمع المحلى، إلى رسم سياسات طريقة إدارة العالم من حوله. لا يمكن لعاقل تصديق أن كل مراكز أبحاث قياس الرأى العام وكبريات الصحف الأمريكية بما تمتلكه من إمكانيات هائلة وأدوات ومناهج بحث متطورة لم تكن على علم بوجود تحول فى اتجاهات الرأى العام الأمريكى ضد الديمقراطيين ومرشحتهم هيلارى كلينتون.
لقد مارست تلك المراكز عملية تضليل واسعة النطاق فى محاولة للتأثير على إرادة الجماهير وادعت عبر أبحاثها العلمية مؤشرات غير صحيحة بشأن نجاح كلينتون الساحق، عاونها فى ذلك كبريات الصحف والمحطات التليفزيونية؛ وهو الأمر الذى ينبغى التوقف عنده كثيرا، ويؤكد أن هذه المراكز والمعاهد العلمية لا تعمل بعيدا عن إرادة أجهزة الاستخبارات الأمريكية ومراكز صنع القرار، لذلك رأينا معظم وسائل الإعلام تفتح مساحات لا نهائية لهيلارى كلينتون بينما تشن حملات ضارية ضد ترامب، بل إن جميعها رفضت استضافته باستثناء «فوكس نيوز».
البيت الأبيض خرج هو الآخر على قواعد النزاهة وصدرت من المكتب البيضاوى تصريحات لباراك أوباما يحذر فيها الناخبين من خطر ترامب على الولايات المتحدة والعالم؛ وهو ما يُعد تدخلا سافرا من رأس السلطة التنفيذية للتلاعب بالعملية الديمقراطية ومحاولة التأثير على توجهات الرأى العام.
بنهاية الأمر انتصر الصندوق لإرادة الأمريكيين، لكن ما يخصنا تأمل الأسلوب الذى اتبعته الدولة الأمريكية لإدارة العملية الانتخابية والذى اعتمد على حملات التضليل والتشويش من خلال المعاهد والمراكز العلمية ومواقع التواصل الاجتماعى وكبريات الصحف. هذه الأسلوب ذاته اتبعته إدارة أوباما لتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الكبير عبر الفوضى الخلاقة فيما عُرف بثورات الربيع العربى ولا تزال، نفس المراكز والمعاهد العلمية المرموقة وكبريات الصحف والمحطات التليفزيونية تبث أكاذيب بشأن الواقع المصرى خاصة والعربى عامة. لذلك أدعو هؤلاء المتشدقين بمصداقية واهية لكل ما يصدر عن المراكز والمؤسسات الحقوقية المدعومة أمريكيا مراجعة أنفسهم قبل ترديد ما تبثه من معلومات مغلوطة، فهذه المراكز قد ثبت تآمرها على الشعب الأمريكى نفسه. أظن أننا نكون أغبياء وحمقى إذا صدقنا بعد اليوم تقريرا صادرا عن مؤسسة حقوقية مصرية مُمولة غربيا حتى لو كان الممول مؤسسة وقف أو معهد أبحاث؛ فكل ما يرد به من معلومات ووقائع تمت صياغتها بما يخدم السياسة الغربية؛ ونكون حمقى أيضا إذا احتفينا بتحليل أو مقال لباحث مصرى لمجرد أنه ينتسب لمركز أبحاث غربى كما يفعل البعض باحتفائه بعمرو حمزاوى لعمله فى معهد كارنيجى. إذا أردتم تعريفا لإعلام الصوت الواحد الموجه الذى يسعى للانقضاض على عقل المواطن، فها هو الإعلام الأمريكى نموذج، وأتصور أن أساتذة الإعلام المصريين والمتخصصين فى بحوث الرأى العام مدعوون لدراسة هذه الظاهرة فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة.