السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة «13»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ظهى «دولة مدنية حديثة» ولا شك، أحدثك عن الولايات المتحدة الأمريكية، التى جذبت أنظار العالم الأيام الماضية، ولا تزال، جراء ما شهدته من انتخابات رئاسية، هى الأهم فى العالم؛ إذ بموجبها يتحدد الشخص الجالس على رأس النظام السياسى المنوط به إدارة النظام العالمى، باعتباره رئيس القطب الأوحد.
عسانا إذن أمام فرصة مواتية، لا تسنح كثيرًا، للتأكيد على أن «الدولة المدنية الحديثة» ليست هى «المدينة الفاضلة»، لكنها قطعًا أرقى الصياغات التى وصلت إليها المسيرة الإنسانية فى طريقها إلى بناء مجتمعات قوية قادرة على البقاء والنمو والتطور وتحقيق الرفاهية لشعوبها. وعليه، فليس فى التأكيد على مدنية الدولة الأمريكية، ما يخصم من رصيدها السلبى فى الثقافة الشعبية العربي؛ إذ لا تصلح سياساتها المنافية للمصالح العربية للسحب من رصيدها الضخم فى حساب «الدولة المدنية الحديثة». فليس لنا، ونحن نتبادل حديثًا وطنيًا جادًا، أن ننكر على الولايات المتحدة الأمريكية أنها مجتمع يؤمن بالفعل بجوهر «الحكم رشيد»، بالمعنى الدقيق والواسع للمفهوم، ولا يمكننا أن نطعن فى «سيادة القانون» على الأرض الأمريكية. ولا يحق لنا أن نقلل من حجم القناعة الأمريكية بمفهوم «المواطنة»، وهى المجتمع التعددى بانى أعظم اقتصاد فى العالم، وأهم قوة دانت لها قوى عديدة بالعرفان والولاء والطاعة. لا يخفف ذلك من وطأة معتقل جوانتنامو الأمريكى، ولا يمرر سياساتها الخارجية الاستعمارية، ولا يوفر مهربًا آمنًا لانحيازاتها الجلية لذاتها ومصالحها التى عانت منها الكثير من الشعوب الطامعة فى فرصة مشروعة نحو استقلال قرارها وتحرير إرادتها.
إذن، على أى محمل طيب نرفع «مدنية وحداثة» الدولة الأمريكية!، سؤال نتداوله بكثرة، نؤكد به عدم جديتنا فى فهم «السياسة» باعتبارها «فن المصلحة». وتوضيحًا أُشير إلى الآتى: كافة محتويات مفاهيم «الحكم الرشيد»، و»سيادة القانون»، متوفرة فى الدولة الأمريكية، وليس لنا، بمنطق مقبول أن ننكر على المجتمع الأمريكى نجاحه فى تجسيد صحيح لمفهوم «المواطنة»؛ ذلك المفهوم الأثير فى كل «دولة مدنية حديثة»، ولا سبيل إلى جدل سطحى بشأن رسوخ مفاهيم، «حرية الرأى والتعبير»، و»تداول المعلومات»، و»الشفافية»، و»المسائلة» و»المحاسبة» فى الإدارة الأمريكية، ولا رصيد حقيقى لكل من يدعى أن تعددية المجتمع الأمريكى يمكن أن نتجاهلها بحكم بعض الممارسات العنصرية، التى هى بحق ممارسات فردية، لا تعبر عن خلل فى المنظومة التشريعية، ولا ضعف فى مستويات الرقابة التشريعية على أعمال السلطة التنفيذية. «التعددية السياسية»، أساس «الدولة المدنية الحديثة»، منشؤها أصيل فى الولايات المتحدة الأمريكية إزاء تعددية المجتمع الأمريكى ذاته، باعتباره مجتمعًا بالغ التنوع الدينى والجنسى والعرقى، إلى حد يجعل من قيام مجتمع متماسك من تلك المكونات الوافدة من الأمور الجديرة بالاحترام؛ فأن يسعى مجتمع إلى بناء «دولة مدنية حديثة»، وهو المجتمع الموصوف دائمًا فى كافة أدبيات علم الاجتماع بأنه مجتمع متجانس، مثل مصر، لهو عمل أقل مشقة من البناء ذاته من مجتمع، فى مجمله وأساسه، قام على فكرة الهجرة والاغتراب، بما يحمله الأمر من ثقافات متباينة، ومرتكزات قيمية مختلفة.
ظهور شخصية جدلية على رأس النظام الحاكم فى الولايات المتحدة، دونالد ترامب، لا ينبغى تفسيره بعيدًا عن حيوية المجتمع الأمريكى، ورفضه البقاء أسيرًا لفكرة الرمز الواحد، والفكر الواحد، والركون إلى ما سبق تجربته، فهناك «اللى يعرفوه ليس بالقطع أحسن من اللى ما يعرفهوش»!، ومن هنا كان الناخب الأمريكى ملولًا، مغامرًا كمجتمعه فى نشأته، فاكتفى بفترتى رئاسة للديمقراطى أوباما، والأخير بالمناسبة نجح فى تحفيز الاقتصاد الأمريكى إلى حد بعيد، فما ظهرت أصوت وطنية «تحب أمريكا وتدعمها» تطالب باستمرار أوباما إلى أجل غير مسمى، مثلما لم يفعلوا الأمر ذاته مع كلينتون فى أواخر أيامه فى الحكم، وهو الذى حقق أرقاما اقتصادية قياسية لم تشفع له فى التحقيق معه على الهواء مباشرة، وإدانته فى مسألة علاقته بإحدى سكرتيرات البيت الأبيض، وكان مهبط شعبية كلينتون أنه «كذب على شعبه فأنكر ما هو مؤكد»!، بينما سمحت الثقافة الشعبية الأمريكية بالعلاقة المحرمة باعتبارها من الأمور الشخصية المكفولة لكل «مواطن» أمريكى.
فى تجسيد حقيقى لمبدأ فصل ما هو دينى عن ما هو دنيوى، وهو من المبادئ الشائعة فى كل حديث جاد عن «الدولة المدنية الحديثة».
بانتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وإعلان ترامب فائزًا، بادرت هيلارى كلينتون إلى مهاتفته لتهنئة بالفوز، وتضع نفسها فى خدمة الإدارة الأمريكية تحت قيادته.
لاحظ أن هيلارى لم تنزلق لأحاديث، مثيرة عندنا وجانبية مهجورة عندهم، منها على سبيل المثال، أنها حصلت على الأغلبية الشعبية، وهذا صحيح، لكن النظام الانتخابى الأمريكى المعقد أنصف ترامب بحصوله على أغلبية المجمع الانتخابى. 
لم تتباك هيلارى على مستقبل أمريكا مُشيرة إلى جملة المساوئ التى كانت قد ألصقتها بترامب أثناء الحملة الانتخابية.
ولم تعلن هيلارى أن الشعب الأمريكى أخطأ فى الاختيار، فذلك أمر محفوف بالمخاطر فى مجتمع يدفع بالرأى العام إلى مستويات عليا فى دوائر صناعة القرار. حرص الرئيس الأمريكى أوباما على استقبال الرئيس المنتخب فى البيت الأبيض، مقر الحكم، باعتباره أمرًا بروتوكوليًا فى الحياة السياسية الأمريكية.
مع التأكيد على أن جل اهتمامه فى الفترة الباقية له فى البيت الأبيض ينصب على انتقال سلس للسلطة إلى الرئيس المنتخب، ولم يغفل ذلك عن طرح أمنياته لترامب بالنجاح فى مسئولياته كرئيس لكل الأمريكيين. راجع مواقف أوباما من ترامب حتى قبل إعلان النتيجة بدقائق، تدرك حجم القناعات الأمريكية بالإرادة الشعبية، وبقواعد ومبادئ الدستور الأمريكى. ورسوخ الديمقراطية ثقافة مجتمعية كاسحة، لا يمكن إهدارها أمام مظاهرات، هينة قياسًا على الشعب الأمريكى، هبت تعارض انتخاب ترامب رئيسًا.
المتخوفون من السياسات الأمريكية فى عهد ترامب، يغفلون عن الكثير من القيم الحاكمة «للدولة المدنية الحديثة»؛ ففى تلك الدولة لا بديل للرئيس، مهما بلغت شعبيته، عن احترام «مؤسسية» الدولة؛ ومن ثم فيد الرئيس ليست مطلقة فى الحكم؛ ذلك مع الاعتراف بأن الدستور الأمريكى يمنح الرئيس سلطات أوسع فى مجال السياسة الخارجية، على نحو لا مثيل له فى السياسات الداخلية.
انطلاقًا من رؤية تامة الصنع محليًا، لا صلة لها «بالدولة المدنية الحديثة»، أشار الكثيرون إلى دعم كامل سيلقاه ترامب من أعضاء الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه، خاصة وقد سيطروا بالفعل على الكونجرس الأمريكى بشقيه، النواب والشيوخ. بينما المتابع للحياة السياسية الأمريكية يدرك على وجه اليقين أنها لا تحترم كثيرًا مبدأ الانتماء الحزبى.
فتاريخيًا، كثيرًا ما تجابه سياسات وقرارات الرئيس الأمريكى بمعارضة فى مجلس النواب أو فى مجلس الشيوخ، ومن أعضاء فى حزب الرئيس ذاته، حدث ذلك مع رؤساء من الديمقراطيين، مثلما حدث مع رؤساء من الجمهوريين. .
ولا صوت علا يطعن فى وطنية من عارض الرئيس، ولا «المؤامرة» باتت منهجًا لإدارة الرأى العام الأمريكى، ولا دعوى قضائية رُفعت تقتص من صاحب رأى مخالف لرأى الرئيس، وهم بذلك، وليس بغيره، يدعمون «أمريكا»!. 
الدرس الأمريكى كان للجميع، هذه هى قواعد «تداول السلطة» فى «الدولة المدنية الحديثة» التى نلوكها كثيرًا، دون أن نحمل لها احترامًا حقيقيًا. 
فهل نحن بالفعل على قدر من المسئولية الوطنية فندفع بتجربتنا الديمقراطية الوليدة إلى طريقها الصحيح صوب «الدولة المدنية الحديثة»، فنتحمل تبعات ما تستلزمه من قيم مانعة لشخصنة الدولة، حاكمة لسُبل الحكم الرشيد، وبقاء الكل تحت حد سيادة القانون، ومشقة التعددية السياسية والحزبية، وإعلاء شأن الرأى العام.
أم أننا سنظل أسرى أحاديث هلى شاكلة «أن الشعب الأمريكى اقتنع برأى الرئيس السيسى المؤيد لترامب.. فانتخبه»!!. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.