مع فشل تجارب عديدة للتنمية، تم استبعاد مفهوم نصيب الفرد من الدخل القومى كمعيار ومؤشر دقيق للنمو الاقتصادى. ولقد أصبح من المسلم به الآن أولوية اتجاه التنمية لإشباع الحاجات الأساسية المادية للأغلبية الساحقة من السكان، ومن ثم جرى التأكيد على أن إشباع هذه الحاجات المادية ليس معناه النزول بحاجات الإنسان إلى حدها الأدنى، وأن معناه الوحيد هو توفير الحد الأدنى المطرد النمو من الإشباع الكامل لحاجات الإنسان: الحاجات الفردية من غذاء وكساء ومسكن، والحاجات الجماعية مثل الماء النقى للشرب والصرف الصحى والنقل والعلاج والتعليم والبيئة غير الملوثة، ويتوقف كل ذلك على ما ينتجه المجتمع من السلع والخدمات من حيث الكم والكيف.
ومع تطور مفهوم وفلسفة التنمية يمكن أن نضيف إلى الحاجات الأساسية المادية السابقة مجموعة من الاحتياجات غير المادية التى لا ينتظم فيها الناس فى أطر رسمية، كالحاجة إلى الثقافة بأوسع معانيها وإمكان الحصول على المعرفة وتذوق الفنون، وكذلك الحاجة إلى الإعلام بمعنى حق الإنسان فى معرفة ما يجرى حوله، فى بلده وفى العالم، فنقل تلك المعلومات بالقدر المعقول من الأمانة والموضوعية وسيلة لاستكمال المعرفة. ويدخل فى ذلك حق المواطن فى ممارسة ما يؤمن به من قيم دينية وروحية. وأخيرًا يعد احترام حقوق الإنسان رأس الاحتياجات الأساسية.
وكان مكنمار، رئيس البنك الدولى، هو أول من طرح مفهوم الحاجات الأساسية فى خطاب عام ١٩٧٢ فى مجلس محافظى البنك، وقد صاغه عندئذ على النحو التالى:
«إن مهمة حكومات البلدان النامية هى إعادة توجيه سياسات التنمية من أجل الهجوم المباشر على فقر السكان الأكثر حرمانا، أولئك الذين يمثلون أربعين فى المائة من السكان، فيجب عليها أن تكون مستعدة لمنح أولوية أكبر لوضع أهداف للنمو فى صيغة حاجات بشرية جوهرية فى صيغة تغذية وإسكان وصحة ومحو أمية وعمالة، حتى لو كان ذلك على حساب تخفيض سرعة التقدم فى بعض قطاعات التصنيع البالغة التميز التى تذهب منافعها للقلة، وهنا ينبغى أن يكون واضحا أن أمن مفهوم الحاجات الأساسية المادية وغير المادية يختلف عن مفهوم حاجات الكفاف. فهذا الأخير يكاد أن يكون مفهومًا بيولوجيًا خالصًا لا يتجاوز المحافظة على حياة الإنسان، بتوفير القدر الأدنى من السلع والخدمات اللازمة للبقاء. أما مفهوم الحاجات الأساسية، فالمفروض فيه أن يكون مفهومًا متحركا يتطور مع تطور المجتمع، وبحيث يزيد مع الزمن القدر اللازم للإنسان من السلع والخدمات، سواء من حيث الكم أو الكيف.
وحتى الآن، فإن القيمة الجوهرية لهذا المفهوم هى أنه قد حرر الفكر الاقتصادى من مفهومين مضللين، أما الأول فهو مفهوم نصيب الفرد من الدخل أو الدخل المتوسط على أساس الناتج القومى الإجمالى. فهو مفهوم يخفى عدم المساواة بين السكان، وهو الأمر الذى ظهر فى أواخر حكم الرئيس الأسبق مبارك حينما وصل معدل النمو إلى نحو ٨٪، وهو معدل مرتفع لم يشعر به المواطن الفقير، لأن عائد النمو ذهب إلى رجال الأعمال والفئات العليا والطفيلية فى المجتمع، وأضحى هذا المفهوم مفهومًا مضللًا.
وأما المفهوم الثانى فهو الحد الأدنى للدخل، وكان مفهومًا يتوقف على أسلوب الاستهلاك، ولهذا التحفظ الوارد فى منطق التنمية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية ينبغى أن تبدأ استراتيجية التنمية بتحديد نمط الاستهلاك للمجتمع، خاصة نمط استهلاك الغالبية الساحقة من السكان.
وهنا تطرح القضية التى صارت تعرف باسم الأمن الغذائى، فالبلدان النامية ومصر فى القلب منها تعانى من أزمة غذاء نتيجة إهمال هذه الدول لقطاع الزراعة وانخفاض إنتاجية العمل الزراعى باطراد. وينعكس الوضع نفسه على إنتاج الغذاء، واعتماد الدول النامية على الخارج فى استيراد غذائها، هذه البلدان النامية هى تمثل أكثر من ٧٥٪ من سكان العالم الرأسمالى، التى لم تكن تمثل حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى سوى ٣٩٪ من إنتاج الحبوب، و٣١٪ من إنتاج اللحوم، و٢١٪ من الإنتاج البروتينى، و٢٩،١٪ من اللبن ومنتجات الألبان. وقد انخفض هذا الإنتاج للدول النامية إلى نحو ٢٠٪ فى السنوات الأولى من هذا القرن عما كان عليه حجم الإنتاج منذ ثمانينيات القرن الماضى، وبالإضافة إلى ذلك فإن الدول النامية تواجه عادة بالوضع التالى، وهو زيادة معدلات استهلاك الغذاء بأسرع من زيادة معدلات الإنتاج المحلى منه. فالإنتاج الغذائى يزداد ولكن بمعدلات أقل من معدلات زيادة السكان.
ومصر دولة من الدول النامية التى تعانى من أزمة غذاء كبيرة، وأن زيادة الطلب على الغذاء إنما ترجع إلى ارتفاع معدل نمو السكان، واطراد الهجرة من الريف إلى المدينة، الأمر الذى أدى إلى تكوين عشوائيات ومجتمع معدوم ومحدود الدخل، وانتشار بعض الأمراض الاجتماعية. ويرجع الأمر أيضًا إلى التوسع فى تقديم الطعام فى تجمعات الخدمات والتعليم والصحة، وأخيرًا التوسع النسبى فى مستوى المعيشة، ولذا تحولت مصر التى كانت بلداً زراعياً مهماً فى العالم، وكان سلة الغذاء للإمبراطورية الرومانية فى الماضى إلى مستورد لمعظم احتياجاته الغذائية الاستراتيجية، ويتم الاستيراد عندئذ وبصفة أساسية فى السوق الرأسمالية العالمية التى تتصف بالاحتكار والاستغلال والتحكم فى أسعار المنتجات الغذائية، ولا يمكن أن نتجاهل أن السوق العالمية تعانى بدورها من أمرين: انخفاض إنتاج المحاصيل الغذائية، وارتفاع استهلاك هذه المحاصيل، وإذ تشهد هذه السوق منذ العقد الأخير من القرن الماضى درجات متصاعدة فى التضخم، فقد تمثلت هذه الأزمة للمواد الغذائية فى عدم كفاية الحبوب وارتفاع أسعارها عدة مرات، وبافتراض استمرار معدلات النمو الحالية على ما هى عليه، أى ٢،٩٪ كمعدل للزيادة السكانية السنوية و٢٪ كمعدل لزيادة الإنتاج الزراعى و٤٪ كمعدل لزيادة الاحتياجات الغذائية، فإن من المتوقع أن يصل العجز بالنسبة للحبوب وحدها فى عام ٢٠٢٠ إلى نحو ٥٠ مليون طن.
ومع ذلك، فإن بعض الدراسات العلمية تشير إلى أن الأرض الصالحة للزراعة يمكنها بالمستوى الحالى من التقدم العلمى والتكنولوجى أن توفر المنتجات الغذائية لنحو ٣٥٫١ مليار نسمة أى نحو خمسة أمثال عدد سكان العالم حاليا.