منذ بداية النصف الثانى من القرن العشرين، انطلق التيار الثورى والمشروع الحضارى الكبير، الذى قاده جمال عبدالناصر: ذروة عالية، نضالية ونظرية، لحلقات وكفاح أجيال سبقت، على ساحة الأمة العربية، من أجل أهداف الاستقلال الوطنى، وحرية وكرامة المواطن، والعدل الاجتماعى، وتحرير وتوحيد الأمة. وبنفس القدر: ذروة كبرى، تأسيسًا ودروسًا وإلهامًا، لجهود نضال واجتهادات فكر، لأجيال لحقت ولا تزال، من أجل ذات الغايات الكبرى، ما بين خليج الأمة ومحيطها، مع كل اللازم، الواجب: من تطوير وتجديد، فى التطبيقات والصيغ والبرامج، إزاء ظرف يختلف، وتحديات عصور مستجدة. إن التيار الذى حمل لواءه جمال عبدالناصر، تيار الناصرية، وكما يتأكد يومًا بعد يوم وعقدًا بعد عقد، ليس فحسب تجربة كبرى وملحمة نضال لثورة عملاقة فى الماضى، وليس فحسب قيادة نبيلة جليلة لأحد زعماء وعظماء التاريخ، وإنما الناصرية بجانب كل ذلك وبعده، هى نظرية ثورية متسقة متبلورة واضحة الأركان، لمجمل الأمة العربية من مشرقها لمغربها، ومشروع ثورى حضارى قائم على العلم وفلسفة فى التاريخ، وخوض غمار المعارك والمحكات والتجارب فى آن واحد، وتيار تحرر وطنى وتقدم اجتماعى وتوحيد عروبى. وقد انطلق هذا التيار والمشروع الكبير ليمضى قدمًا ويتنامى، وليتطور ويستمر ويثمر مهما كانت المعيقات والأنواء وجرائم الأعداء، ومهما تعقدت الظروف حتى تحقيق الغايات الكبرى، إذ فرض الواقع العربى الحديث وإشكالياته فرضًا، هذا التيار والمشروع، من أجل أن يكون: إجابات دقيقة واضحة على أسئلة مطروحة وملحة، ومن أجل أن يكون: السلاح المعرفى العربى الأعظم والأساس، وكاستجابة حقيقية فى مواجهة التحديات، وفى مجابهة المستجدات، وفى سبيل القضاء على كل نواقص بل وكوارث هذا الواقع العربى المتردى البائس، وإقامة مختلف البدائل الصحيحة والمناخات الصحية المنشودة.
- أولًا فإنه ليس هناك أكثر ترديًا أو أكبر بؤسًا:
من حال أمة جثم عليها، أزمانًا، الاستعمار بمختلف صوره وأشكاله وأمسك بخناقها، احتلالًا عسكريًا مباشرًا فى أكثر الأقطار، واستعمارًا جديدًا وتبعية مهينة فى مجمل الأقطار، واستعمارًا استيطانيًا فى قطرين: الجزائر التى قاومت، وقدمت أكثر من مليون ونصف المليون شهيد إلى أن تحررت، وفى فلسطين حيث ذروة وحشية احتلال، وذروة بسالة مقاومة، والكفاح الذى لا يزال متصاعدًا مدهشًا بطوليًا ضد الاستعمار الاستيطانى الصهيونى، المدعوم بأعتى وأبطش إمبريالية وإمبراطورية ناهبة للشعوب فى التاريخ، وحيث ورثت هذه الإمبراطورية الأمريكية الغاشمة قوى الاستعمار القديم وفى مقدمتها البريطانى والفرنسى.
- ثانيًا وليس هناك أكثر ترديًا أو أكبر بؤسًا:
من حالش أمة تهدر كرامة مواطنيها، وتمتهن أبسط حقوقهم وحرياتهم كل يوم وكل آونة، تحت سطوة وتسلط أنظمة حكم استبداد، قمعية دونما حدود، تدعمها كذلك نفس القوى الاستعمارية وفى المقدمة الإمبريالية الأمريكية، حيث يعانى الشعب العربى على طول الوقت، أحط صور التبعية والتعاون مع الاستعمار، والعمالة الصريحة القبيحة، باتت تعلنها فى تفاخر وفجر جميع أنظمة حكم الرجعية العربية، من خليج أمة العروبة وشبه جزيرتها إلى محيطها ومغربها، مرورًا (بمصرها): كبرى بلدانها وذات الدور التاريخى الريادى والحضارى، فى قيادة هذه الأمة وإلهامها، والذى وصل إلى ذروته التاريخية بعصر وثورة، وانطلاق: مشروع جمال عبدالناصر.
هذا إلى أن وقعت كبرى كوارث هذه الأمة فى تاريخها الحديث، بالانقلاب الرجعى التابع الحاد والمتفاقم، فى مصر عقب الغياب المباغت لجمال عبدالناصر، ارتدادًا عن هذه الثورة وضد هذا المشروع، وإذ خرجت الثورية الناصرية من سلطة الدولة، منتقلة إلى شارع أوسع، الجماهير الشعبية المصرية والعربية.
- ثالثًا وليس هناك أكثر ترديًا أو أكبر بؤسًا:
من حال أمة صارت فى ذيل العالم حضاريًا، ونموذجًا للتخلف المجتمعى الشامل، وللطبقية الصارخة والظلم الاجتماعى، وللفساد بلا رادع وبلا نظير، جنبًا إلى جنب استبداد الطغاة، والتبعية للغزاة!!. وحتى النفط، الذى كان بالإمكان فى ظروف أخرى صحية عادلة أو معقولة، أن يصبح نعمة هائلة تنعم بها جماهير الأمة، فإنه تحول إلى موضع ومرتع لمزيد من نهب الأسر الحاكمة وزبانيتها، وإلى نقمة تزيد من أطماع الأجنبى الدخيل فى المنطقة، وتدفعه أكثر لمخططات ومؤامرات الهيمنة والاستغلال، ولم تشهد الأمة إلا فيما ندر، محاولات للتعامل الرشيد العاقل المنتج والمثمر، لمنحة النفط، الذى سواء طال أو قصر الوقت محكوم بلحظة سوف ينفد فيها وتنتهى معه كل القصة.. سواء قصة المنحة، أو قصة المحنة!.
- رابعًا وليس هناك أكثر ترديًا أو أكبر بؤسًا:
من حال أمة، حباها التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة واللغة، ومعارك وقضايا المستقبل والمصير، بكامل مقومات وقسمات القومية الواحدة، وكأكثر ما تكون القوميات تكاملًا، ونضوجًا وبلورة، ومع ذلك فقد جرى تمزيقها وإعادة رسم خريطتها وتوزيعها على القوى المستعمرة، كأقبح ما يكون التمزيق والتقسيم، وكأوقح ما يكون التوزيع والالتهام، وعلى نحو لا مزيد عليه من إهانة أمة عريقة، مهد الرسالات القدسية السماوية، وصاحبة مشاريع وإسهامات حضارية كبرى عبر أحقاب التاريخ الإنسانى!.