ربما أرادت الحكومة خلال قراراتها الأخيرة الخاصة برفع أسعار المحروقات وتذكرة المترو وتعويم الجنيه ومحاربة الدولار وغيرها من القرارات أن تقول لنا إن الرحلة انطلقت، والوقت يمر والهبوط حدث، ومحاولة الصعود بطيئة وعليكم بصبر أيوب وليس أمامكم سوى ربط الأحزمة والامتناع عن الشكوى والصراخ! نعم فقد سارعت الحكومة إلى محاولة الحل السهل لمشاكل مصر الاقتصادية المستعصية بسبب سياسة وإدارة الحكومات المتعاقبة غير الموفقة على الإطلاق، فقد أصدرت عدة إجراءات بين ليلة وضحاها اعتقادًا منها أنها ستخفف حالة الغليان والضيق التي يشعر بها المواطن المصرى الذي لم يجد حتى الآن من يحنو عليه! ويخفف عنه ولو شيئًا قليلا من أعبائه التي لا تنتهى بل قامت برفع أسعار المحروقات وأسعار تذكرة المترو إلى ٣ جنيهات بدلا من جنيه واحد وقامت بتحرير سعر الصرف وتخفيف قيمة الجنيه إلى أقل من النصف على أمل أن تحصل على قرض صندوق النقد الدولى لتسد عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات دون محاولة تحسين الأوضاع المعيشية العامة للبلاد من السياحة واستثمار أجنبى ومحلى أو تحقيق طفرة في عائدات المصريين بالخارج أو تشجيع التصدير للحصول على العملات الأجنبية وتشغيل بعض المصانع المتوقفة وغيرها من الأمور البديهية قبل قراراتها العنترية التي اتخذتها ربما تلبية لشروط صندوق «النكد الدولى» وليس النقد الدولى.. وكان يتطلب من حكومتنا الحنكة والتروى والتفكير قليلا قبل إصدار هذه الفرمانات في هذا التوقيت الصعب، وهى فرمانات ضد الغالبية من المصريين الفقراء الذين يعيشون حالة من الغلاء غير مسبوقة بل كان عليها أن تضع غطاءً حمائيًا للمواطن البسيط وتنتظر إلى ما بعد أكذوبة ١١- ١١ الجارى التي دعت إلى ها الجماعات الإرهابية الإخوانية وبعض الحركات المجهولة والممولة من الخارج لإحداث تظاهرات وفوضى عارمة بالبلاد وهذا لن يتحقق بإذن الله!
فقد تسببت هذه القرارات في رفع أسعار السلع من خضروات وفاكهة نتيجة زيادة المحروقات وزيادة الدولار وتخفيض الجنيه وارتفاع أسعار المواصلات بسبب رفع الدعم جزئيًا وتطبيق القيمة المضافة وزيادة معدلات التضخم وازدياد معدلات الفقر والبطالة واختفاء ٩١٩ صنفًا من الدواء وارتفاع أسعار مواد البناء والعقارات وانتاب الناس حالة من الضجر والغضب وسط مخاوف من مخاطر اجتماعية قد تحدث في حالة عدم تحمل الطبقة الفقيرة - المتدهور حالها أصلًا - تداعيات هذه الإجراءات بالرغم من سعى الحكومة لتطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادى مدته ٣ سنوات، وطلبت من الشعب الوقوف إلى جانبها في إجراءات مؤلمة قد تشهد معها البلاد فترة عصيبة وحالة تقشف على أمل جنى ثمار هذا الإصلاح في السنوات التالية لتطبيق البرنامج.
ولا بد أن تصحح مصر مسارها الاقتصادى، بوضع حلول جذرية، وإبعاد المسكنات التي دمرت وأعاقت انطلاقتها النهضوية والمستقبلية فقد فشلت الحرب السياسية والعسكرية على مصر، فما يتبقى إلا الحرب الاقتصادية والحرب النفسية وهما وجهان لعملة واحدة مثل السياسة والاقتصاد فعندما انفجرت الطائرة الروسية فوق صحراء سيناء كان هذا إعلانا صارخا على بداية الحرب الاقتصادية على مصر بضرب السياحة المصرية والتي تمثل نسبة كبيرة من الدخل القومى بهدف تركيع مصر اقتصاديا.
لكن على أي حال فإن المؤسسة الوحيدة التي تتحرك في الشارع حاليًا للتعامل مع الأزمة الاقتصادية هي القوات المسلحة التي توفر كراتين سلع غذائية بنصف الثمن توزعها على الفقراء في القاهرة والمحافظات ودائما ما تجدها في الأزمات التي تعجز الحكومة عن حلها مثل أنابيب الغاز والأرز والزيت والإسكان والطرق وغيرها من قبل.. ولكن هذا يدعونا إلى تحذير الحكومة بأن الرهان فقط على طلب الشعب الأمان وعدم الخروج للتظاهر في اليوم المذكور أعلاه هو رهان خاسر، ليس مضمونًا أن تلعب على هذا الوتر ويخاف من المجهول لذلك سيقبل ويتحمل ويرضى ويعدى ويطنش علشان الأمور تمر، هو مستعد لربط الحزام من منطلق مقولة «أهى عيشة والسلام»! ولا بد أن تتحسب الدولة لذلك تمامًا فالجائع من الممكن أن يصرخ فجأة وبدون سابق إنذار ورغمًا عن عصا الأمن المركزى المكهربة إذا اعترض وتظاهر، سواء كان خروجه منفردًا أو موجهًا وفى الحالتين سيخرج بطريقة عشوائية منفلتة لأنه غير متخصص في الاقتصاد ولا يفهم مثلنا معنى تعويم الجنيه أو تحرير سعر الصرف أو التضخم، هو لا يفهم إلا الطعام والكساء لعياله من برد الشتاء والأمن والاستقرار ويصبح مستور وسط الناس ولا بد أن تدرك الحكومة هذا لا محالة.
وتبذل كل الدول المتقدمة والمتخلفة الغالى والنفيس للوصول إلى الأمن والاستقرار المجتمعى، والتمتع به لأنّه هو المظلة التي يمكن من خلالها تحقيق التقدم الاقتصادى والاستقرار السياسي، والوصول إلى النمو والارتقاء في جميع المجالات. ففى وجود الأمن والأمان تتفرغ الشعوب إلى العلم والتعلم، وإلى العمل والإنتاج، أما في حالة انعدام الأمن - لا قدر الله - وفقدان الاستقرار، فإنَّ الأمم تتخلف، وعجلة النماء تتقهقر، وعملية الإنتاج تتباطأ أو تتوقف، وينزوى الناس في بيوتهم، وينعدم القيام بالواجبات الوطنية الملزمة وتتوقف حينئذ الحياة وتتحول إلى غابة تتأكل علينا الأمم! فلا بد أن نحافظ على وطننا الغالى مصر ولا ننساق أو ننكب إلى دعوات فاشلة ووقتها لا ينفع البكاء على اللبن المسكوب!!.