يوم الإثنين فى ٣١ ـ ١٠ ـ ٢٠١٦ تمكّن مجلس النواب اللبنانى فى جلسته السادسة والأربعين من انتخاب رئيس للجمهورية هو الجنرال ميشال عون، بعد فراغ فى المنصب استمر لعامين ونصف العام.
الجنرال عون هو العسكرى الثالث على التوالى الذى يجرى انتخابه لمنصب الرئاسة بعد الجنرالين إميل لحود وميشال سليمان. بيد أنّ هناك فرقًا ذا دلالة. فقد انتقل الجنرالان السابقان من قيادة الجيش مباشرة إلى منصب الرئاسة. أما فى حالة عون؛ فإنه كان قد طمح للرئاسة فى عام ١٩٨٨ وكان قائدًا للجيش، على أثر انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل. لكن فى عام ١٩٩٠ وبدلًا من الرئاسة ذهب الجنرال عون للمنفى فى فرنسا، ومع الوقت تطور إلى زعيم لتيار شعبى مسيحى قوى، كسب فى الانتخابات على أثر عودته من المنفى عام ٢٠٠٥ لعدة مرات. وفى عام ٢٠٠٦ عقد حلفًا مع «حزب الله»، بحيث تبادل معه الدعم والتأييد والسيطرة على الحكومات لحين وصوله للرئاسة عام ٢٠١٦، وقد أظهر الإيرانيون فرحًا بوصول عون للرئاسة، وقالوا إن فى ذلك انتصارًا لـ«حزب الله»، الذى أصرَّ على ترشيحه للرئاسة طوال الأعوام الثلاثة الفائتة. لكنْ فى ذلك فرق وفارق أيضًا. فهو ما استطاع الوصول إلى الرئاسة إلاّ بعد أن رشّحه سعد الحريرى زعيم تيار المستقبل، وزعيم السنة فى لبنان، والخصم اللدود لـ«حزب الله» وإيران. وهو أيضًا ما استطاع الحصول حتى الآن على دعم الرئيس نبيه برى رئيس مجلس النواب الحالى، والحليف الرئيسى لـ«حزب الله». بل إنّ حلفاء بشار الأسد فى لبنان من قوميين سوريين وبعثيين أظهروا قبل انتخاب عون وبعد ترشيح الحريرى له انزعاجًا شديدًا منه ودعموا منافسه على المنصب النائب سليمان فرنجية. وهذه كلها مفارقات تصبح ذات دلالة، عندما نتابع الخطاب الذى ألقاه الرئيس الجديد فى مجلس النواب بعد أدائه القَسَم. فقد تحدث عن الطائف والدستور، وعن الوفاق الوطنى، وعن الشراكة، وعن تحييد لبنان عن النزاع فى سوريا، وعن الالتزام بمواثيق الجامعة العربية، ومواثيق الأُمم المتحدة. وهذه كلها مبادئ ونقاط ما عرفها خطاب عون منذ التسعينيات من القرن الماضى، وإلى حين تولّيه رئاسة الجمهورية، وتُضافُ لذلك كُله واقعة أُخرى، وهى أنه بعد ترشيح الرئيس الحريرى لعون، وقبل اجتماع مجلس النواب بأيام، جاء إلى لبنان موفد سعودى هو وزير الدولة ثامر السبهان، مؤيّدًا خطوة الرئيس الحريرى باتجاه الجنرال، ومطالبًا تيار المستقبل وحلفاءه فى ١٤ آذار بالوقوف معه. وفى زيارته للجنرال عون قبل الانتخاب بساعات قال إنّ السعودية تدعم خيارات اللبنانيين واتفاقاتهم، وتقف مع المؤسسات الدستورية اللبنانية.
كيف حصلت تلك الانقلابات كلّها ولماذا؟
فى الخطاب الذى رشّح فيه الحريرى العماد عون للرئاسة قبل أسبوعين، اعتبر عمله الكبير والمفاجئ هذا تضحية من جانبه، كما كان يفعل والده الرئيس الشهيد رفيق الحريرى لاعتبارات المصلحة الوطنية وحفظ الوطن والدولة فى الأزمات. قال الحريرى إنه خاف على المؤسسات وعلى الدولة من الفراغ الطويل فى سُدّة الرئاسة. وقد صار خلال قرابة الثلاث سنوات إلى ترشيح الدكتور سمير جعجع، ثم الرئيس أمين الجميّل ثم الوزير سليمان فرنجية. ومع ذلك فقد بقى الأُفق مسدودًا؛ لأنّ الحزب وحلفاءه يريدون الفراغ، ووضع الوطن والمواطنين على حافة الهاوية. ولذلك فقد صار للمرة الثانية أو الثالثة إلى التفاوض مع الجنرال عون على مسائل الطائف والدستور والوفاق الوطنى وحفظ لبنان من التردّى فى النزاعات الإقليمية، وترميم الأوضاع المالية والاقتصادية والاجتماعية.
وعندما وجد تقاربات مُرضية فى هذه الشئون المهمة، أقدم على المخاطرة الكبرى بترشيح عون للرئاسة. وموقف الحريرى هذا ما جلب لعون أصوات كتلة المستقبل التى هى أكبر الكتل فى البرلمان فقط، بل جلب له أيضًا موافقة الجانب السنى الذى كان شديد الاعتراض على عون لعدوانه المستمر على حُرماته لما يزيد على العقد ونصف العقد، وقد لقيت مخاطرة الحريرى هذه استجابة من جهات عربية فى مقدمتها السعودية، وأُخرى دولية مثل فرنسا وروسيا ودول أُخرى فى الاتحاد الأوروبى المهتمة بالشأن اللبنانى، والمتوجسة من تفاقم أزمات اللجوء السورى الكثيف إلى أراضيه، وللخوف من وصول النيران السورية إلى لبنان بعد تدخل «حزب الله» فى القتال ضد الشعب السورى منذ عام ٢٠١٣. إنّ ما ذكره الرئيس الحريرى من توافقاتٍ مع عون فى شئون كبرى، ورد بعضه بالفعل فى خطاب القسم الذى ألقاه الجنرال الرئيس فى مجلس النواب. إنما لا ينبغى الإسراف فى التفاؤل. فقد تدخل «حزب الله» بسوريا فى عهد الرئيس ميشال سليمان، وكان سليمان ضد التدخل وما استطاع منعه حتى بعد صدور إعلان بعبدا بالإجماع، والذى ينص على النأْى بالنفس عن النزاع السورى. بل إنّ «حزب الله» غزا بيروت عام ٢٠٠٨ وكان سليمان الذى صار رئيسًا فيما بعد قائدًا للجيش، وما تدخل لمنع مسلّحيه من اجتياح العاصمة. وإلى ذلك فإنّ عون الذى دعم «حزب الله» بداخل لبنان فى سياسته الخارجية، وشاركه فى مغانم الحكومات طوال عشر سنواتٍ، صعب الانتظار منه استنادًا للقوة المعنوية للرئاسة، أن يواجه بصرامة سطوة الحزب فى المرافق مثل المطار والمرفأ، وفى الكثير من الوزارات، بل وفى الجيش والقوى الأمنية. لقد أنجزت مبادرة الرئيس الحريرى أمرين اثنين شديدى الأهمية: أنْهت الفراغ فى سُدّة الرئاسة. وقد كان فى ذلك خطر داهم ولا شكّ، لأنّ استمرار الفراغ يهدد سائر المؤسسات والقطاعات. وقد كانت الحكومة شبه معطَّلة وكان فراغ يهدّد الوطن والدولة، سيحدث عندما ينتهى أجل التمديد لمجلس النواب فى الربيع القريب، فلا تعود أى من المؤسسات الدستورية قائمة فضلًا عن أن تكون فاعلة.
والأمر الآخر الذى أنجزته المبادرة الحريرية، وأنجزه مجلس النواب أخيرًا، هو ضرب الفساد والإفساد الذى نخر فى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. فقد نشر عون وتياره، و«حزب الله» ومناصروه، أجواء عدائية، أوشكت أن تُعيد النزاع القديم بين المسلمين والمسيحيين. صار المسلمون السنة جميعًا متطرفين ودواعش، ولا يريدون الخير ولا الشراكة الوطنية مع المسيحيين، رغم أن المسيطرين على الدولة والمؤسسات هم جماعة عون ونصر الله. لقد وصلت السكين إلى الذقن.
وسادت أجواء سامّة النقاشات التليفزيونية والصحفية، وأحسسنا جميعًا بالعزلة المتزايدة، رغم التأكيدات شبه اليومية من جانبنا على المناصفة وعلى العيش المشترك، وعلى مكافحة التطرف والإرهاب، إنما على مَنْ تقرأ مزاميرك يا داود؟! إذ ما عاد هناك جمهور للإنصات والمناقشة الحرة، وصار الميزان الأوحد للشراكة فى نظر كثرة مسيحية: قبول عَون رئيسًا أو لا وطن ولا دولة لعيش مسيحى إسلامي.
لقد انفقأ هذا الدمَّل. وصار عون رمز الانعزالية المسيحية المتشنجة خلال عقدين، رئيسًا للجمهورية، وبترشيحٍ وترجيحٍ من سعد الحريرى. فهل يكون خطابُ قسَم الجنرال عودة إلى الرشد والرشاد، وجسرًا فعليًا للعبور إلى الدولة الجامعة بعد طول انتظار؟!
إنّ مخاطرة سعد الحريرى أظهرت أنّ هناك أُناسًا مسئولين يخافون على الدولة فى لبنان، وهم مستعدون للتضحية من أجلها. فهل يُصغى الشركاء والخصوم، وإذا أصغى الجنرال فهل يُصغى الحزب؟!
نقلًا عن الشرق الأوسط