إلى أين؟
وماذا بعد؟
إن استطعت الإجابة عن هذين السؤالين عزيزى الثائر سأسير خلفك، ولربما أسير بك محمولاً على أكتافى.
لقد انزلقنا عزيزى الثائر كلنا إلى الهوة.. نعم كلنا وقعنا فى ذات الهوة.. ذات الفخ الذى نصب لنا جميعا.
فالنوايا الطيبة وحدها يا عزيزى لا تكفى لإنجاح ثورة.. ولا تكفى وحدها أيضا لنقول «لقد قمنا بثورة.. ونجحت أو لم تنجح».
ليس فقط لأن أوراق اللعبة ليست فى أيدينا.
بل تحركها وتحركنا نحن أيضا كيانات كعرائس الماريونيت، ولكن لدخول واختراق كيانات أخرى ربما أكثر تنظيما وتمددا فى أرضنا وفى مجتمعنا.. قسمت بطوننا، وتركت عاهة على جلودنا، فتشوهنا، وشوهت حيواتنا، ولوثت ثقافتنا وسلوكنا ونسيجنا اللغوى.
ربما ترى وتقول إنه علينا أن نحاول ونستمر ويكفينا شرف المحاولة.. وأنه لا بد من الحراك والتغيير.
وأوافقك عزيزى الثائر وأسير معك جنبا إلى جنب، وربما خلفك وأجعلك زعيمى وبوصلتى فى جميع ربوع البلاد شرقها وغربها شمالها وجنوبها لنغيّر من الجذور.. ونجتز النبتة الشيطانية التى لوثت أرضنا.. وهذا الحراك والتغيير المحمود الحتمى لا جدال فيه ولا غنى عنه ولا بدائل..
لقد تأخرنا طويلاً.. ورغم ذلك لا يزال لدينا الوقت للمسير.
فأن تأتى الأشياء متأخرة أفضل من أن لا تأتى على الإطلاق، وهذا النمط من التغيير والحراك بطبائعه وطبائع الأشياء تراكمى لا راديكالى.
والتراكم الذى قد ترى فيه عزيزى الثائر تراخيا، لأن نتائجه ليست آنية ولا وشيكة الحدوث وتريد أنت الحزم والحسم وثأرك لا تريده أن يطول.. أنبئك بأنه وعلى علاته هو الأجدى والأكثر فاعلية، بل ومعه صك ضمان، يؤكد لك ويضمن له النجاح.
البَناءُ يحتاج إلى وضع أساسات وأسس، ليثبت ويستقر، أما الهدم فهو لحظى ترى نتائجه أمامك رأى العين، فتهدأ وتقول لقد حدث شىء ما هنا أو هناك. ولكن ما إن ينقشع الدخان عن سمائك التى أشعلتها وبنيانك الذى هدمته -وإن كان آيلا للسقوط- ولم تصبر عليه ليقع من تلقاء نفسه، واستخدمت مقلاعك ومطرقتك لتنجز شيئا ما تظنه خيرا.. فتكتشف أنك تجلس بين ركام حطام على أرض خربة قد لا تصلح لبناء لاحق.
الراديكالية بطبائعها حماسية منشطة للخلايا فيها تشظى وحمو يشحذ الهمم ويحرك الأبدان، فتظن أنك تمارس فعلا رائدًا فاعلاً فعالاً مفعوله أكيد، فى حين أنك تسير بسرعات ودفعات ودفقات تقفز بها للأمام، فى حين أن اندفاعها يرتد بك للخلف، فتكون المحصلة أنك تنطلق للوراء وترتد للخلف، وتظن أنك تسير للأمام..
هكذا هو الاندفاع غير المحسوب وغير المدروس، وبديله لا يعنى أبدًا الصمت والخنوع.
الثبات على الموقف وتحديد الهدف والمضى فى طريق تحقيقه بخطى ثابتة واثقة، وإن بدت متأنية غير مسرعة.. هو السبيل الأوحد للبناء والتغيير التراكمى المضمونة عواقبه مهما بدا المشوار طويلاً.
الثائر المتشظى يقفز أسوارًا ويحرق مراحل ويعدو راكضا مغمض العينين، فيتعثر أحيانا، ويفقد بوصلته فى أحيان أخرى، وتعرقله ما تعترض طريقه من معوقات، وقد ينتهى به الحال إلى السقوط فى جب قد لا يستطيع الصعود من غياهبه للسطح والطفو بخفة الريشة أو حيوية راكب الأمواج، وينتهى أمره ويهلك ربما للأبد.
ذلك المصير لا يتوق له عاقل مهما كانت مغريات الحماسة الملتهبة.
التأنى وتقدير حسابات الطريق من الكياسة وحسن الفطنة، فأحيانا ثورتنا وغضبنا يجعلنا نثور ونصرخ قبل أن نحدد مطالبنا أو نعرف إجابة السؤالين «إلى أين؟» و«ماذا بعد؟».
هل تذكر عزيزى الثائر أحد المشاهد المركزية فى تحفة «وحيد حامد» و«شريف عرفة» «الإرهاب والكباب»، وهو المشهد الذى مهد للفينال الذى لا يقل عبقرية عن كل مقدماته.. عندما سأل المسئول المعتصمين عن مطالبهم.. فتلعثموا وتخبطوا وبعضهم لم تكن له مطالب سوى كيلو كباب محبش بالسلاطات لكل معتصم وعلبة حليب أطفال بسعر رخيص وغير مغشوش، وآخر كان يريد نقل أبنائه إلى مدرسة أقرب للبيت، وثالثة كانت تريد دواءً لا تجده فى الأسواق، وكلها مطالب آنية ملحة ومشروعة، ولا يلام عليها المواطن، فهى حق أصيل له عليه المطالبة به، وللدولة كذلك حق على المواطن عندما تطالبه بالانحياز إليها بدوافع وطنية ضد الحرب على الإرهاب.
الكباب لا يبرر الإرهاب..
حق المواطن فى الكباب -كمثال- لا يتعارض ولا ينافى حق الدولة فى مساندتها ضد الإرهاب، والوقوف معها فى جبهة واحدة وفيلق واحد، والإرهاب بمفهومه العامودى لا يعنى فقط قتل النفس، بل إرهابها وتخويفها وترويع أمنها ومحاولة إسقاطها.
مساندتك عزيزى الثائر لبلادك وأنت تطالبها بتوفير سلع وخدمات دليل نضج ووطنية يضعك فى مصاف المعارضة الرشيدة التى تحتاجها أمتك المصرية الرشيدة، أما إسقاطها وهزيمتها داخليا سيجرؤ ويجر عليها من فى قلبه مرض، فيجور عليها وعليك، وتكون محصلتك صفرا كبيرا وهزيمة وسقوط مروع لك ولأمتك.
رتب أفكارك عزيزى الثائر وحدد مطالبك المشروعة، وطالب بها بالطرق المشروعة، ولا تجعل ثورتك تنسيك انحيازاتك الأكيدة لأمتك وأولوياتها المرحلية.
هكذا تفوز حتما بأمة رشيدة وبمؤسسات تختص بمهامها وبدولة تسير فى مصاف الأمم والممالك مرفوعة الرأس، وتتشكل لديك وبالتراكم معارضة يكون لها ظهير شعبى يستطيع فرض رؤيته للغد وطرح البدائل فى أوانها وتوقيتها.
فما يأتى قبل الأوان يكون مشوها مبتسرا.
وما يأتى بعد الأوان يكون عديم الفائدة.
أعقلها وأجب بنفسك لنفسك عن السؤالين
تكون لك ولغيرك المسرة.