«صورة أختى وهى تموت تسكننى، ما زلت أذكر وجهها الملائكى، وقسماتها النورانية، وابتسامتها الجميلة وهى تموت، كانت فى موتها أجمل من رابعة العدوية، وأروع من كليوباترا المصرية».
«حين مشيت فى جنازتها، وأنا سنى ١٥ سنة، كان الحب يمشى إلى جانبى، ويشد على ذراعى، ويبكى، وحين زرعوا أختى فى التراب، وعدنا فى اليوم التالى، لنزورها، لم نجد القبر، وإنما وجدنا فى مكانه وردة».
هى كلمات الشاعر السورى الراحل «نِزار قبَّانى» فى كتابه «قصتى مع الشعر»، وهى المأساة الأعظم الأولى فى حياته، التى طعنت قلبه الصغير فى عمر ١٥ سنة ١٩٣٨، حينما انتحرت أخته الكبرى «وصال»، بعد أن قتلت نفسها بكل بساطة، وشاعرية منقطعة النظير، بعد إجبارها من الزواج برجل لم تكن تحبه، وحرمانها من الزواج بحبيبها، ليقرر بعدها محاربة كل الأشياء التى تسببت فى موتها.
كان يردد دومًا أنها توفيت بمرض القلب، حتى كشف الحقيقة فى مذكراته، التى كتب فيها: «إن الحب فى الوطن العربى سجين، وأنا أريد أن أحرره، أريد تحرير الحس والجسد العربى بشعرى، إن العلاقة بين الرجل والمرأة فى مجتمعاتنا غير سليمة».
عاش «نزار» أجمل قصة حب مع «بلقيس الراوى»، التى وصفها بأنها أعظم كنز عثر عليه بالصدفة.
يقول: «كنت أقدم أمسية شعرية فى (بغداد) عام ١٩٦٢، وقصتنا مثل كل قصص الحب فى البلاد العربية، تواجه دومًا بكلمة «لا»، والسبب تاريخى الشعرى، لأن القبائل العربية لا تزوج بناتها من أى شاعر تغزل فى إحداهن، ولما يئست من إقناع شيخ القبيلة بعدالة قضيتى، ركبت الطائرة، وسافرت إلى (إسبانيا) لأعمل دبلوماسيًا فيها لمدة ٣ سنوات».
«كنت أكتب لها خلال هذه السنوات الطويلة، وتكتب لى، رغم أن البريد كان مراقبًا، وظل وضعى هكذا حتى عام ١٩٦٩، الذى ذهبت فيه إلى (بغداد) بدعوة رسمية للاشتراك فى مهرجان للشعر، وألقيت قصيدة من أجمل قصائدى، وكانت (بلقيس الراوى) هى بطلتها».
هزت تلك القصيدة «بغداد» فى تلك الفترة، وتعاطفت الدولة والشعب العراقى مع قضيته، وتولى قادة كبار فى الدولة طلب يد «بلقيس» من أبيها إلى «نزار».
ذهب إلى بغداد عام ١٩٦٩، ليلقى قصيدة شعر، ثم رجع سوريا مع «بلقيس» زوجته بعد أن وافق أبوها أخيرًا على زواجهما.
أحس أنه معها، يعيش فى حضن أمه، فقد أدركت أنه مثل كثير من الرجال، يحتاج إلى أم، ثم زوجة، فظلت تعامله كطفل، وتعوضه عن أمه.
صفعه القدر بقسوة بالغة للمرة الثانية، فأصابه بأشد درجات الألم، حين استشهدت حبيبته وزوجته وأمه الثانية «بلقيس الراوى» فى حادث مأساوى فى ١٥ ديسمبر ١٩٨١ تحت أنقاض السفارة العراقية فى «بيروت»، إثر انفجار هائل بالقنابل.
يصف «نزار» هذه اللحظة قائلاً: «كنت فى مكتبى بشارع الحمراء، حين سمعت صوت انفجار زلزلنى من الوريد إلى الوريد، ولا أدرى كيف نطقت ساعتها «يا ساتر يا رب»، بعدها جاء من يُنْعى إلىَّ الخبر، السفارة «العراقية» نسفوها، قلت بتلقائية «بلقيس» راحت، شظايا الكلمات ما زالت داخل جسدى، أحسست أن «بلقيس» سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد، وتتركنى فى بيروت، ومن حولى بقاياها، كانت «بلقيس» واحة حياتى، وملاذى، وهويتى، وأقلامى، ثم يطلق الشاعر صرخة حزن مدوية، فى قصيدة «بلقيس» التى تُعَد من أطول قصائده».
المدهش فى طفولة «نزار» هو شغفه العجيب، لاكتشاف كل ما هو غامض، وغريب، وتفكيك كل الأشياء، وردها إلى أجزائها، ومطاردة الأشكال النادرة، وتحطيم الجميل من الألعاب بحثًا عن المجهول الأجمل.
يقول: «عَنيْت فى بداية حياتى بالرسم، فمن الخامسة إلى الثانية عشرة من عمرى كنت أعيش فى بحر من الألوان، أرسم على الأرض، وعلى الجدران، وأُلَطِّخ كل ما تقع عليه يدى، بحثًا عن أشكال جديدة، ثم انتقلت بعدها إلى الموسيقى، ولكنى لم أجد نفسى إلا فى الشعر، وبدأت أرسم بالكلمات فى سن السادسة عشرة».
يصف المرأة المثقفة بأنها هى التى تستطيع أن تدخل فى حوار شامل يستغرق ساعات مع رجل، دون أن تشهر فى وجهه أسلحتها التقليدية من جفون ناعسة، وأظافر حادة، وتنانير فلكلورية، وخواتم «مُشكْوِكة» فى أصابعها.
يتساءل «شاعر المرأة» فى النهاية: «هل كان موت أختى فى سبيل الحب أحد العوامل النفسية التى جعلتنى أتوفر لشعر الحب بكل طاقاتى، وأهبه أجمل كلماتى؟! هل كانت كتاباتى عن الحب، تعويضًا لما حرمت منه أختى، وانتقامًا لها من مجتمع يرفض الحب، ويطارده بالفؤوس والبنادق؟! لا أؤكد هذا العامل النفسى، ولا أنفيه!».
إن الألم العظيم بلا شك، هو وحده القادر على خلق إنسان عظيم، هو وحده القادر على خلق المستحيل، هو وحده القادر على تطهير الروح من مختلف السموم والجراثيم.