منذ سنوات طويلة وأنا أتابع برامج الإصلاحات الاقتصادية المتعددة وتلك الخطط الإصلاحية المتنوعة، كنت أستمع إلى عبارات ومفردات مكررة عن «الإصلاح الهيكلى»، و«الإصلاح الجذرى»، و«ضبط سوق الصرف»، و«الانطلاقة الاقتصادية»، و«برامج العدالة الاجتماعية».. إلى آخر هذه المفردات الجوفاء، لقد مللنا حتى هرمنا من التبشير بالخروج من عنق الزجاجة التى اكتشفنا فيما بعد أنها زجاجة حلزونية لا نهاية لها ولا فكاك منها طالما تحركنا وفكرنا بنفس الطريقة، الشعب فقد الثقة والتفاعل والإيمان بكل ما يسمعه عن الاقتصاد وإصلاحاته الموعودة، لذلك أعذر الناس .. كل الناس، حينما يتشككون فى كل ما يجرى على الصعيد الاقتصادى.
لكن ما جرى خلال الساعات الماضية كان شيئا مختلفا تماما، ولا يمت لما سبق بأى صلة، فما جرى فى مصر منذ تولى الرئيس السيسى مقاليد الحكم من تفعيل قيم المصارحة مع الشعب مهما كانت الحقائق صادمة ومرعبة، قرر الرئيس طواعية الانطلاق فى طريق شائك وغير ممهد ومحفوف بالمخاطر، كان الرجل صادقا ومجردًا وواعيًا بكل التحديات، لذلك لم يتردد لحظة فى المضى قدمًا فى طريق مؤلم وخطير، لكن نهاية الطريق ستكون مصر وقتها غير مصر الحالية.
أتذكر يوم أعاد الرئيس الموازنة العامة للدولة إلى الحكومة لاعتراضه على نسب العجز الواردة بها التى دأبت الحكومات المتعاقبة على تأجيل المشاكل وترحيلها للأجيال القادمة، ساعتها أيقنت أن القادم من القرارات الاقتصادية سيكون مختلفًا جملة وتفصيلا، ثم جاءت قرارات إزالة التشوهات جزئيا من دعم الطاقة، ثم ضريبة القيمة المُضافة لتأكيد أننا ماضون فى الطريق بلا تراجع.
وخلال الساعات الماضية صدرت حزمتان من القرارات التى أصفها بالتاريخية رغم ما أتوقعه من هجوم وانتقاد البعض، إلا أن قرارات المجلس الأعلى للاستثمار التى خرجت بحزمة قرارات غير مسبوقة لتحفيز الاستثمار بشكل رأسى وآخر أفقى وفق خطة شاملة وخريطة واضحة المعالم.
ثم صدرت قرارات البنك المركزى فى ٣ نوفمبر بتحرير سعر الصرف مع حزمة إجراءات مصرفية متكاملة لضبط إيقاع العمل المصرفى والقضاء على السوق الموازية للمضاربة وتجارة العملة.
والآن وبعيدا عن هذه الرؤى والآراء.. ما الفائدة التى تعود على المواطن البسيط الذى لا علاقة له بالمؤشرات ولا القطا ع المصرفى وخلافه؟
ببساطة شديدة ودون دخول فى تنظير مقعر أو محدب.. المواطن يرى الاقتصاد من خلال رغيف خبز وطبق فول وسلع أساسية متوافرة بأسعار مناسبة، ثم يعيد النظر فى الاقتصاد من خلال فرص العمل المتاحة، ثم يركز أكثر فى دائرة الصحة والتعليم، ثم يركز أكثر وأكثر فى وضعه العام ويسأل نفسه سؤال «هل أنا سعيد؟».
أقول لنفسى كمواطن، لن تتوافر سلع وخدمات، ولن أكون سعيدا قبل أن يتم اتخاذ إجراءات تصحيحية مريرة وصعبة فى هيكل الاقتصاد، فالبقرة المريضة لن تدر لبنا كافيا وسليما، نحن الآن فى مرحلة علاج صعب.. هذا العلاج سيجعل المريض يتعافى ثم يصلب طوله ثم يبدأ فى الحركة ثم يقوم لينطلق.. تحرير سعر الصرف أو تعويم الجنيه لمصلحة المواطن البسيط لسبب بسيط هو القضاء على الطبقة الطفيلية فى المجتمع التى تثرى وتتربح من وجود سعرين للدولار، الدولة الآن قررت القضاء على سوق المضاربة وتوحيد السعر مما سيوفر الدولار أمام طالبيه دون إبطاء من البنًوك الرسمية، وسيساعد هذا على ضبط منظومة الاستيراد خاصة السلع الوسيطة، ومن ثم تحرك عجلة الإنتاج داخليا، وفتح أسواق تصدير جديدة تلائم العملة المحلية المخفضة.. وهذه الدائرة تحقق تشغيلًا جديدًا وتخلق طلبًا جديدًا وقوة شرائية جديدة، أما انخفاض الأسعار فليس هدفا فى أى اقتصاد، المهم أن تتناسب الأسعار مع الأجور، وهذا هو لب اهتمام الحكومة، القرارات تبدو صعبة ومريرة لكنها سرعان ما تؤتى ثمارها على المجتمع.. الحديث ممتد وسنرى المقبل أفضل لا محالة.