دراسة التاريخ عبر مراحل التعليم العام للناشئة لها الأثر الكبير في صياغة عقولهم وتشكيل وجدانهم وتوجيه سلوكهم وتنمية وعيهم بتاريخ أمتهم واستخلاص الدروس والعبر منها، وبالتالى تصورهم للحاضر والمستقبل، كما أن لها الإسهام الأكبر في تشكيل نظرة شبابنا إلى الشعوب الأخرى، وفى ترسيخ التسامح وقبول الآخر في البنية المجتمعية.
ودراسة التاريخ من جهة أخرى لها دور بارز في تقوية الانتماء الوطنى للطلاب تجاه مجتمعهم ودولتهم ونظامها السياسي، ومن هنا كانت أهمية بناء مناهج تاريخية تقوم على رؤى متوازنة وموضوعية للأحداث والشخصيات التاريخية، بإبراز الجوانب الإيجابية والسلبية معًا للأعمال والإنجازات، بهدف تكوين عقلية نقدية لدى الطالب وإكسابه مهارة الفكر النقدى الحر منذ المرحلة الإعدادية المبكرة، هذه المهارة النقدية هي التحصين المعرفى ضد أمراض التطرف والغلو والكراهية والاستعلاء والغرور الكاذب.
التساؤل المطروح هنا: هل ندرس تاريخنا الإسلامى لناشئتنا وفق المنظور الموضوعى النقدي؟
في تصورى، وأرجو أن أكون مخطئًا، أن معظم المناهج الدراسية للتاريخ الإسلامى، في تعليمنا العربى، تدرس للناشئة طبقًا لمنهجين:
الأول: التركيز على التاريخ السياسي: أي تاريخ الخلفاء والحكام والقادة الأبطال وحروبهم وغزواتهم وفتوحاتهم وانتصاراتهم وأمجادهم ومآثرهم، مع تغييب دور الشعوب وإهماله في صنع هذه الإنجازات، فأصبح تاريخنا تاريخ سير الملوك والأبطال، لا تاريخ الناس الذين عاشوا في هذه المجتمعات، وساهموا في أحداثها، وواجهوا تحدياتها وتغلبوا عليها، أي أن التاريخ الاجتماعى للمجتمعات العربية لا يكاد يظفر بعناية المناهج الدراسية، التي يعظم دور الفرد البطل، ويهمش دور الشعوب صانعة الأحداث، ولذلك لا نندهش من ولع شعوبنا بالقائد الرمز الذي يتحدى الغرب وأمريكا وإسرائيل، حتى لو استبد بهم، وداس كراماتهم وانتهك حرياتهم، وقادهم إلى الهزيمة، كما لا عجب في انتظار شعوبنا الطويل لمجيء المهدى المنتظر الذي يملأ الأرض عدلًا، إذ شعوبنا عاجزة عن التغيير في تناقض مع قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».
الثاني: النزعة التمجيدية للماضي: ندرّس التاريخ الإسلامى للناشئة وفق منظور تمجيدى للماضى ورموزه وشخصياته، تغيب فيه المآخذ والمظالم، وتبرز فيه المحاسن والمآثر، يدرس التاريخ عبر منهج انتقائى، يظهر اللحظات المضيئة، في تاريخ يمتد ١٤ قرنًا، ويغيب ألف عام، تخللته صراعات دموية على السلطة، وقمع المعارضة، ومذابح ودماء غزيرة لمسلمين سالت بيد مسلمين، ومظالم عامة، ونزاعات مسلحة طائفية وقبلية وإثنية ممتدة، ولم يتورع الأمويون عن ضرب الكعبة بالمنجنيق، وهو ما لم يجرؤ عليه عرب الجاهلية، وصلبوا ابن الزبير، وهو محرم دينيًا، كما تجرأوا على قتل ابن بنت الرسول الإمام الحسين ونكلوا بأهل بيته، واستباحوا مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى منوالهم فعل العباسيون، ومن بعدهم العثمانيون، سلسلة من الظلمات بعضها فوق بعض، كل هذه الظلمات يمر عليها التاريخ المدرسى مرور الكرام، بدون نظرة نقدية تقويمية، ويبرز تاريخنا الملقن لطلابنا مقولة المرأة المستغيثة «وا معتصماه»، ولا يقول شيئًا عن إذلال كرامة المسلم المطحون والمهمش الذي كان يجلد وتؤخذ منه الجباية قسرًا، لينعم الخليفة في قصره.
يفخر التاريخ المدرسى بمقولة هارون الرشيد للغمامة المارة على قصره: «أمطرى حيث شئتِ، فسيأتينى خراجك»، تباهيًا بامتداد الإمبراطورية الإسلامية، ولا يذكر شيئًا عن الدماء التي أريقت، حتى يأتى هذا الخراج للخليفة! يحشو أذهان الناشئة بأمجاد أمتهم، وهذا مطلب مشروع، ولكن ماذا عن نظرة الشعوب المغلوبة للعرب الفاتحين؟! وماذا عن المظالم الواقعة عليهم؟! ولماذا بخس الحق التاريخى للشعوب الأخرى؟
يركز تاريخنا على أخطاء الآخرين ومؤامراتهم ضد المسلمين، ماذا عن أخطائنا تجاههم؟
ختامًا: تاريخنا ليس مقدسًا، هو تاريخ بشر يصيبون ويخطئون، وليسوا منزهين عن الأهواء والأخطاء، وعلينا تدريسه وفق رؤية نقدية هدفها الإفادة من دروسه وعدم تكرار أخطائه، المنهج التمجيدى للماضى جعل أعناق شبابنا مشدودة إلى الوراء في أحلام رومانسية تسعى إلى استعادة هذا الماضى ونظامه السياسي، الخلافة.
نقلًا عن الجريدة الكويتية