مضى من الموسم السينمائى ٢٠١٦ معظمه، وسوف يحين عند انتهائه رصده وتقويم حصاده، وحتى الآن فإن أحسن أفلام هذا الموسم بلا شك وأنضجها فكريًا وجماليًا فيلم «نوارة» إخراج وتأليف هالة خليل، وقد كتبنا عنه هنا وقت عرضه (وإن كان يستحق تناولًا أوسع وتأملًا أكثر).. وإلى حين التقويم الشامل للموسم أقول إن فى مقدمة ما لفت نظرى من أفلام تسجيلية فى ٢٠١٦ الفيلم التسجيلى الطويل «على أرضها» إخراج محمد خيرى إبراهيم، كما أحسب أن أحسن فيلم كوميدى فى هذا العام وأوضحه خفة روح وسلاسة هو «لف ودوران» الذى أخرجه خالد مرعى وقام ببطولته أحمد حلمى ودنيا سمير غانم.
مدة عرض الفيلم التسجيلى «على أرضها» (ساعة و١٦ دقيقة)، وقد أخرجه محمد خيرى (الذى ولد فى ١٩٨٦) وكتب له السيناريو كما قام بالمونتاج والصوت، وهو فيلمه الأول وإن كان قد شارك من قبل فى التمثيل والإنتاج والإخراج بأربعة أفلام قصيرة، وصدرت له عدة روايات.. ويطمح فيلم خيرى إلى تقديم قصة المسيحية ككل فى مصر، منذ رحلة العائلة المقدسة إليها وحتى اليوم، وهو طموح كبير، لكن لحسن الحظ فإن موهبة مخرجنا الشاب هى على قدر هذا الطموح، والأمر الأكثر مدعاة للرضا والابتهاج إلى جانب الموهبة أن وعى خيرى أيضًا على قدر هذا الطموح وجدير به.. فهذه القضية وكل قضية كبرى مثلها، يحتاج تناولها التمتع بالوعى والحس التاريخى والرؤية الموضوعية والتعبير المدقق، إلى جانب الموهبة والمقدرة الفنية، وكل هذا توافر بوضوح فى تجربة هذا الفيلم، وعلى امتداد الحقب التاريخية المتعاقبة التى عرض لها، وهو زمن تاريخى غير عادى وبالغ الطول.
لذلك يكاد يكون الفيلم دراسة تاريخية عن مصر منذ بداية التاريخ الميلادى وزيارة العائلة المقدسة إلى اليوم، من خلال قضيته.. كما أنه يقدم رؤية تاريخية/ سياسية لكثير من العهود ونظم الحكم فى مصر منذ ما قبل الإسلام إلى عصور الخلافة الإسلامية، وصولًا إلى التاريخ الحديث منذ عهد محمد على وإبراهيم باشا إلى عصر ثورة يوليو بقيادة جمال عبدالناصر، إلى عهدى السادات ومبارك، إلى العام الذى حكمت فيه مصر جماعة الإخوان المسلمين.
وقد استخدم الفيلم اللقطات الوثائقية الحقيقية، والرسوم التوضيحية، والاستماع إلى شهادات ورؤى باحثين ومثقفين.. (مثل المثقف المعروف د. وسيم السيسي/ الباحثة المتميزة د. مونيكا حنا/ فولكارد ويندفور رئيس جمعية المراسلين الأجانب/ د. أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية فى جامعة الأزهر، والذى عبر باقتدار عن وجه مشرق وحق للإسلام فى القضية المطروحة/ الأديب علاء الأسوانى.. وغيرهم).
ولا أدل على هذا الوعى الشامل العميق لدى مبدع الفيلم من المقارنة ورصد التناقض الكامل، بين تعامل عصرين، هما عصر عبدالناصر، وعصر السادات ومبارك فضلًا عن عام حكم الإخوان، إزاء ما يعرف بقضية الوحدة الوطنية، ومناخ العلاقة فى الدولة المصرية بين المسلمين والمسيحيين، وأدوار سلطة الدولة فى ذلك سلبًا أو إيجابًا.. أى بين التعامل النموذجى والراقى (ولنقل أيضاً: السوي) فى هذه القضية لدولة عبدالناصر، والتعامل ضيق الأفق وغير المسئول بل الأحمق والغبى لنظم الحكم التى تلته.. وبالتأكيد فإن الوصول إلى هذه الرؤية والنتيجة لا تتطلب انحيازًا مسبقًا لنظام وتوجهًا أو ضد آخر، وإنما تتطلب فحسب الحد الأدنى من الموضوعية والنظر المنصف الرصين، وليس أكثر.
إن فيلم «على أرضها» عمل سينمائى وثائقى ناضج ومتميز، إلى حد أنه يصح اعتباره مرجعًا له أهميته وقيمته فى القضية الدقيقة والحيوية التى اختار أن يتناولها بالتحليل والتعمق والتوثيق.
• «لف ودوران».. جذاب يستحق النجاح
يضاف فيلم «لف ودوران» إخراج خالد مرعى، إلى الأفلام الناضجة لأحمد حلمى، نجم الكوميديا الموهوب، الواعى الراقى، وإن كان لا يزال يتصدر أفلامه فى نظرنا «آسف على الإزعاج»، ثم «إكس لارج».
وفيلم «لف ودوران» على بساطته، وعدم إيغال رؤيته فى قضايا كبرى، فيلم جذاب.. ويستحق النجاح، فهو من الأفلام التى حظيت بإقبال جماهيرى كبير فى عام ٢٠١٦، كما أن الفيلم يتمتع بروح فنية آسرة، نبعت من إتقان واقتدار كل من شاركوا فى نسج الفيلم (فهو مثل دانتيلا)، بقيادة المخرج، وبدءًا من الكاتبة الموهوبة منة فوزى، إلى مدير التصوير الرائع أحمد يوسف، إلى مصمم الديكور البارع باسل حسام، ومن المونتير القدير خالد سليم، إلى واضع الموسيقى التصويرية الموظفة المرهفة عمرو إسماعيل.
أما «باقة» التمثيل، وهى باقة بكل معنى الكلمة، فقد كانت متناغمة إلى أبعد مدى.. رأينا لحلمى كعهدنا به أداء مرهفًا لماحًا ممتعًا، ورأينا أدوارًا وأداءات جميلة للموهوبين جميعًا، من الراسخين كالرائعة إنعام سالوسة التى تستحق تقديرًا وتكريمًا أكثر لمشوارها الفنى الحافل (فى دور جدة البطل)، وميمى جمال (فى دور والدته)، وصابرين (فى دور خالته).. إلى الصاعدة الآسرة جميلة عوض (دور أخته)، مرورًا بالموهوب المتميز القدير بيومى فؤاد.
أما دنيا سمير غانم التى تقاسمت بطولة الفيلم بالتمام والكمال مع أحمد حلمى، فقد قدمت (شخصية عادية) بطريقة تمثيل طبيعية للغاية، بعيدًا عن نماذج ما يعرف بـ«الكاراكتر»، أو الشخصيات ذات الطابع الخاص الأقرب إلى الكاريكاتير، كما فى فيلمها «طير انت»، أو مسلسلاتها «الكبير أوي» و«لهفة» و«نيللى وشريهان».. والحق أن «دنيا» قدمت فى «لف ودوران» تمثيلًا واقعيًا، دقيقًا مدهشًا وممتعًا، وصل إلى تلك المرتبة النادرة (أى مرتبة: أنها لا تمثل). وهى تستحق عن هذا الأداء فى رأينا أن تعد فى مقدمة ممثلات موسم ٢٠١٦، كما أنه ابتداء من هذا الأداء نذهب إلى أنها متصدرة لممثلات جيلها ككل.
وقد يلاحظ أننا ذكرنا معظم الأدوار، كأقارب لبطل الفيلم الشاب.. وهذا هو موضوع الفيلم، صحيح أنه يتضمن قصة حب بين البطلين، تنمو برفق أو نعومة على مهل، وسط ظروف مربكة بل وشائكة، لكن هذه الظروف هى الموضوع الرئيسى.. أى (الأهل)، وحاجتهم إلى ابنهم الشاب، وأن تستمر إقامته وسطهم، فى مقابل تطلعه الذى يستحوذ على تفكيره للسفر إلى بلد أجنبى (إيطاليا) والعمل هناك وحتى الزواج بفتاة من ذلك البلد!.. وهنا من خلال ظرف رحلة للجميع إلى شرم الشيخ، ظرف يتيح جمالًا حقيقيًا يبدعه المخرج والمصور ومجمل فريق الفيلم، تحاول الأسرة تدبير كل ما يحول دون أن يبتعد الابن عنهم (وهنا معنى العنوان: لف ودوران)، وتشاركهم فى ذلك الفتاة (دنيا سمير غانم) التى تقع مع بطلنا فى مشاعر قصة حب تنسج وتتصاعد.. لكن ما أن بدأ يشعر هو بهذه العاطفة بعمق وصدق، حتى يصدم وينزعج لدى علمه بهذه المحاولات، وإن كان يوحى الفيلم أو يومئ عند النهاية.. أن الحب سيتغلب على كل شىء: لأنه حب حقيقى.. بل وقادر، هو وليس المحاولات و«المكر الخير» والخديعة (اللف والدوران).. أن يدفع الشاب إلى الرجوع عن فكرة الابتعاد.. وأن يحمى الجميع من (وجع البعاد).