مثل تلك المشاهد هى مشاهد مهينة لعقلية أى إنسان شارك أو تابع- وإن لم يع ذلك- فلقد تم بالفعل اختزال هؤلاء بكل تاريخهم بل تراكماته فى تلك اللحظة الوجودية العدمية التى لا يسبقها أى مقدمات أدت إليها ولن يعقبها أى منافع فى حالة الخسارة أو حتى المكسب.. فالمكاسب اللحظية تأثيرها مؤقت سرعان ما يزول.. فالمال يذهب لمقاصده ويبقى الإنسان بعد زواله بلا عمل ولا هدف سوى معاودة الكرة والحلم بها مجددا دون أى تراكم معرفى أو خبرة اكتسبها سوى الابتسام المصطنع أمام الكاميرات، وربما التنهد وبلع الريق أو حتى البكاء من فرط التأثر أو القفز أمام الحاضرين وأمام الكاميرا أو خلفها كبهلوان لا يرقى حتى لفنان السيرك الذى يمتهن مهنةً جُعلت فى الأساس لإسعاد الناس وإبهارهم يوميًا بما لديه من موهبة وتراكم يتحقق له كل يوم على شكل خبرات جديدة تضاف لرصيده أو اكتساب صداقات ربما ومريدين يتابعونه، كذلك التعرض لأنماط مختلفة وثرية من المتلقين قد تصدر منهم وعنهم تصفيقات لحظية تلقائية يكتسبها البهلوان عن جدارة حققتها له موهبته التى أهلته لجنى المال.
حتى حلم البهلوان هنا صار بعيدا.. واستبدله المواطن بدور البهلوان الكومبارس أو ربما سائق التوكوك الذى ينجم لمرة واحدة فى حياته ويذهب بعدها لخانة النسيان الأبدى واجترار اللحظة المصنوعة -غير الطازجة- التى لم تعد عن مجرد كونها حبكة لن تتكرر فلم يسبقها إعداد ولم يلها جهد ولم تكن فى مسارها الصحيح.
من وعى لكل ذلك.. ثار
فلقد ثار من ثار لتصحيح المسار
والخروج من تلك الحلقة الفارغة.. فالحياة بلا أمل أو حلم حقيقى.. بلا غد وبلا معالم لاستكمال المسير حياة لا يمكن المضى فيها.
حياة حولها أرباب الربح السريع والاحزاب البهلوانية للعبة وضربة حظ يتوق لها الجميع ولا بدائل ولا خيارات مطروحة، لذلك انقلب من أراد حقه فى حياة حقيقية تقوم على فكر وثقافة التراكم والعلم والمواهب والمؤهلات.
كل ما سبق كان من إرهاصات قيام الثورة على يد أبناء الجامعات المنتمين للطبقة الوسطى المسئولة عن إحداث الحراك المجتمعى لنبذ الهيافة وزمن المسوخ وإسقاط النظام الذى حول المواطن لحاقد حالم بالثراء السريع الذى يأتيه بالحظ لا الجهد والذى حوله لكومبارس وجعل حياته وحول طموحاته وآماله لمجرد لعبة فى أيدى حفنة من رجال الأعمال تلهو به كيفما تشاء وحيثما تريد وكأنهم يرمون للمواطن بحسنة على الأرض عليه التقاطها ليقيم أود حياته ويحصل على حقوقه الآدمية كإنسان وكمواطن فى دولة علم ومؤسسات.
دمر من ثار هذا النظام بأكمله، وقضى على ثقافته وفكره الملوث وتسخيره للمواطنين وتحويلهم لدمى تشكل وتغيب وتصنع وتعدم كل ذلك فى لمح البصر.
وعندما انتبه المتفرج الذى كان يشاهد كل ذلك من الخارج وهو فى حالة يأس وذهول دفعته للثورة كى لا يدخل بقدميه إلى هذه المنظومة «الخيّة» التى كانت ستسير به حتمًا للعدم والغد المشكوك فى أمره والذى لا تعرف له ملامح.
وآثر الثائر أن يهد اللعبة القائمة ويلعب هو من جديد ربما لعبة لم يكن يعرف أيضا قوانينها ولم يكن محاطًا أو ملمًا بكل تفاصيلها أو ملابساتها ومن سينظمها ومن سيسطو عليها فيما بعد.. أو ربما لم يكن يعرف أيضًا من يحركها فى الخفاء.
فلقد دفعته حالة المقامرة بمقدراته وحقوقه وأحلامه التى لعب بها أرباب التوحش الرأسمالى باسم الاقتصاد الحر المفتوح، لنوع آخر من المقامرة بالنفس وبالروح وبكل ما هو غالٍ ونفيس للهدم والتغيير.
فالغثاء الذى كان قائمًا دفع المندفعين لهوة لم يعرفوا لها آخر.. ولكن وفى نفس الوقت لم يكونوا قادرين -بعد اليوم ولا ليوم آخر - على المضى فى مسيرة التيه والتغييب تلك.. والمشكلة على هيئة حياة اكتشفوا أنها كانت مجرد لعبة ولم يكونوا هم اللاعبين، فأقاموا لهم لعبة أخرى كانوا هم فيها اللاعبين أو هكذا ظنوا، ليتلقف اللاعب المحترف فى النهاية كل ذلك ويمسك بكل خيوط اللعبة فى يديه ويحركها اليوم كيفما يشاء. لمن يسأل نفسه ولسال حاله يقول: لماذا قامت الثورة؟، وعلام كان كل ذلك؟، ربما نكون قد أجبنا وربما تكون الإجابة لم تكتب بعد، ومازالت لعبة الحياة مستمرة ولكن وعلى أقل تقدير فقد اختلفت اللعبة واختلف اللعيبة...عندما اختلفت نوعية اللاعبين واليوم تختلف أيضًا نوعية المعارضين بل نوعية المناضلين!!
فأصحاب رؤوس الأموال ممن كونوا ثروات لا قبل لحصرها فى عهود الفساد المتعاقبة ولا يسعهم الآن التربح كما كان الحال عليه فى السابق أصبحوا اليوم وبقدرة القادر مناضلين ومعارضين للنظام وأغلبهم أيضًا شارك فى إفساد الحياة السياسية بتشكيل أحزاب تدعى الليبرالية وهى شديدة اليمينية ولم تراع يومًا حقوق الفقراء ولا المطحونين.
ومن غير المستبعد أن يكون هؤلاء اليوم هم وراء كل الأزمات الآنية المفتعلة كأزمة السكر وارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية واختفائها من الأسواق وأزمة الدولار، هؤلاء يحاربون الدولة ويحاربون المواطن ، ويحاولون استرجاع ممالكهم التى زالت.. يريدون أن تعود خيوط اللعبة لأيديهم ليحركوا الكادح وسائق التوكتوك كعرائس الماريونيت. ولم لا فالتحالف مع الشيطان ذاته لا ضير منه إن حقق لهم ذلك مصالحهم وعاد هيلمانهم.
هؤلاء أوطانهم المال والسلطة كحال الجماعة الإرهابية التى حكمت طامعة فى السلطة والسطو على خيرات البلاد.