التاريخ يعيد نفسه.. هذا ما أقتنع به.. حتى لو جاءوا بألف مثل.. ونحن لا نتعلم من التاريخ.. هذا ما أقتنع به أيضا.. لأننا بشر.. نخطئ ونصيب.. وعلشان كده عملوا المحاكم.. اللى مش عاوز يتعلم مرة واثنين وثلاثة يتحاسب.. ولما الغلط يبقى جريمة.. فيه محكمة.
الذين جلدوا الدنيا بحالها تحت اسم مهاجمة «السوشيال ميديا» وانفلاتها خرسوا الآن.. بعد أن مارست وسائل التواصل الاجتماعى دور وزارة الخارجية.. والإعلام وربما أدوار أخرى.. مارست دورها وأنجزت فى واقعتين شديدتى الدلالة والخطورة فى آن واحد.. فهل يرضى عنها من يفتشون فى ضمائرنا.. ضمائر كل من يعملون فى الإعلام ويعتبرونهم رجسا من عمل الشيطان؟! لا أظن.. فهؤلاء لا يتعلمون من التاريخ.. ولا من الجغرافيا.. دول حافظين.. نازلين من بطون أمهاتهم حافظين «سكة الوصول» عارفين «القرد مخبى أمه فين»، ولا يهمهم إلا أن يحصلوا على ما يريدون بالطريقة التى يعرفونها.
المهم.. أننا وفى بداية الأسبوع.. وعلشان ماحدش ينسى.. لأننا ننسى سريعا هذه الأيام، نجح طالب إعدادى رائع فى أن يلتقط بكاميرا الموبايل صورة لمدرسة إخصائية نفسية، وهى تقف بقدمها على صدر أحد زملائه.. لتعاقبه بطريقتها التى تعلمتها فى العلاج النفسى لتلاميذ مدارسنا، لم أتوقف أمام فعل المدرسة.. ولن أطالب بمعاقبتها فأمثالها مكانهم الوحيد هو المستشفى.. حتما هذه السيدة طيبة تحتاج للعلاج.. لا السجن.. لكن ما لفت نظرى هو براعة الشاب الصغير.. ومنطق تفكيره الذى هداه إلى التقاط صورة نادرة فى لحظة نادرة.. ولولا هذا الفعل ما كان أحدهم عرف ولا جاب سيرة.. ولا أتاح للعالم كله أن يشاهد كيف «باظ التعليم فى بلادنا»، لولا هذا الشباب المولود فى عالم «الصورة» عالم السوشيال ميديا القاتل.. فعلها الشباب الصغير ولم يكتف بأنه «صورها» كان من الممكن أن يفعل ذلك.. لكن لأنه يفكر بطريقة جيله ويعرف أكثر منا أهمية هذا «الوسيط الإعلامى الجديد».. نشر ما قام بتصويره.. وما جرى بعدها من استدلال الناس على اسم المدرسة.. والمعلمة المريضة.. والتمليذ المغلوب على أمره الذى اتضح أنه «يتيم».. القصة وما خلفها والصورة الفاجرة التى تكذب أى فاجر يدعى أنها لم تقف على صدر التلميذ، وأنها كانت تحاول منعه من السقوط على الأرض.. كل ذلك حدث بفضل «السوشيال ميديا»، مما اضطر الوزارة للتحقيق.. وإيقاف المدرسة مؤقتا.. صحيح أن ما جرى بعد ذلك مهزلة من ادعاء المدرسة.. وإجبار أم التلميذ التى لا تجيد القراءة والكتابة على التوقيع على كلام لم تقله لتبرئة المعلمة.. لكن هذه المهزلة لم تصمد طويلا أمام بلاغة وصدق الصورة التى نشرتها وسائل التواصل الاجتماعى المغضوب عليها.
آخر الأسبوع.. قام مسئول عربى.. فى مؤتمر عربى.. بتوجيه ما اعتبره البعض إهانة لمقام الرئيس.. ولم تمر ساعات حتى كان هذا المسئول لعبة فى يد رجال السوشيال.
لم يتحرك وزير مصرى.. لا من الخارجية ولا من غيرها.. لم يصدر بيان من أى جهة يرد على ذلك التطاول الفج.. لكن السوشيال ميديا فعلت.. ساعات قليلة وكان المتطاول الأهوج قد أصدر بيانا يعتذر فيه عما بدر منه.. صحيح أنه «جه يكحلها عماها.. لما قال إنه كان بيهزر.. لكنه ولخطأ أساسى فى تكوينه لم يحسب حساب المصريين الذين يختلفون فيما بينهم إلى حدود غير مسبوقة.. لكنهم يعيشون بمبدأ «أدعى على ابنى وأكره اللى يقول آمين»، ما يعنينى فى الأمر ما فعلته هذه الآلة العجيبة، فالكلام الذى ردده الرجل وهو بيهزر لم يتناول خطابا لسفير مصرى فى الخارج.. ولم ينقله مسئول.. ولم يدع عبر وكالة الأنباء الرسمية.. من التقط «الإهانة» ومن تعامل معها بجدية تليق بصاحبها هم ذلك الشباب الذى نتهمه دوما بأنه فاسد وبتاع «فيس» و«تويتر».
ملخص القول.. إن كل وسيط إعلامى قد يخطئ.. وقد يتجاوز لكنه سيظل من أعمدة حياتنا.. وليس معقولا أن نطالب الناس بالتخلى عن استعمال الكهرباء، لأننا تعودنا أن نعيش على لمبة جاز، وليس من المعقول أن نفكر بمنطق وزارة التعليم مع تسريب الامتحانات.. نحتاج إلى أفكار جديدة «بره الصندوق» فى تعاملنا مع هذا الوسيط الرائع.. وانسوا حكاية «الرقيب» الخائبة التى عادت مؤخرا لتحولنا جميعا إلى جواسيس على ضمائرنا.. لا علاج لأوجاعنا إلا بحرية أكبر مما نحلم.. لا حدود لحرية هذا العالم الآن.. لا حدود لأفكار الأجيال الجديدة.. صحيح أن من يتعاملون مع هذه الميديا الجديدة ليسوا موظفين، لكن كمان فكرة أننا نريد أن نحول كل شىء إلى وظيفة وكل مبدع إلى موظف أمر مقيت.. وحتما لن ينجح.. الحصان الذى لا يقوده هؤلاء العميان شرخ، ولن تستطيع الحبال التى نحاول تكتيفه بها أن توقفه.. علينا أن نتابعه.. ونفرح برقصته فى البراح.. علينا أن نستدفئ برقصته على الثلج.. وأن نرقص معه.. وإن وقعنا.. فقطعا هذا ليس عيبا فى الحصان.. ولا فى ثلج الشتاء.. إحنا اللى مش عارفين نتزحلق