السبت 28 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة القبطية

القس جاد الله نجيب يكتب: عصر النهضة في أوروبا "The Renaissance"

القس جاد الله نجيب
القس جاد الله نجيب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عرفنا في المقال السابق، أن بذرة النهضة الأوروبىة اللآحقة الّتي مثلت نهضة للإرادة الإنسانية ويقظة للعقول، وقد بلغت المعرفة العلمية في القرن الثالث عشر، درجة من الغزارة والتنوع؛ فكان هذا القرن يمثل العصر الذهبي للفلسفة المدرسية، عندما اتجهت هذه الفلسفة نحو التقريب بين العقل والدين، أي الإيمان والفلسفة. وفي نفس القرن كانت بداية النهاية للعصور الوسطى حيث ازدهر الفن القوطي في العمارة والنحت، كما بدأ تشكيل التجمعات المدنية من جمعيات، ونقابات، وكنائس محلية، وأصبحت المجالس المدنية حريصة على الحصول على قدر متزايد من الاستقلال، والحكم الذاتي مما أدى لعودة فكرة ممثلي الشعب، والذين أصبح لديهم حرية اتخاذ قرارات ملزمة للمجتماعات التي اختارتهم، كما تطورت الحياة الفكرية بشكل مذهل.
سوف أقدم في هذا المقال بعض الشخصيات، التي اهتمت بالفكر اللأهوتي بل شكلته بفقوة مثل ألبرت الكبير وتوما الأكويني، وجانب اهتم بالجانب الأدبي والسياسي مثل دانتي الييجيري.
كان لمدارس وجامعات الكنيسة آثار إيجابية على تطوير العقل. وكان رائد الفلسفة الوسطية في الغرب هو القديس ألبرت الكبيرAlbertus Magnus (1206–1280م)، الذي أعاد صياغة اللآهوت المسيحي بعد فهم فلسفة أرسطو. فإنه أدخل العقل والعلم إلى الغرب وأرسى دعائم صلة جديدة بين الفلسفة والدين.
وُلد القديس ألبرت في ألمانيا في مطلع القرن الثالث عشر، انتقل في شبابه إلى إيطاليا، ودرس في جامعة بادوفا، حيث كرّس نفسه لدراسة الفنون الحرّة وهي القواعد والبلاغة والجدّل وعلوم الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، أي الثقافة العامّة.
رُسم أسقفًا، وكان ممثلًا للبابا في ألمانيا؛ علاوة على أنه فيلسوف ولآهوتي وعالم موسوعي، كان علاّمة متميز، فقد سبق عصره في معرفته بالعلوم، وكان على دراية واسعة بالاختلاف بين اللآهوت والفلسفة، وبين الحقيقة والعلم التجريبي.
جاءت الجامعات في تزامن مع الحياة الفكرية التي قد تأثرت بالفلسفة المدرسية القائمة على الربط بين العقل والإيمان. كانت الفلسفة المدرسيّة التي أحياها ألبرت، منهجًا فكريًا قد عزز وأّكّد على مسئولية الفرد الفكرية الشخصية، وربط بين العقل والإيمان، وخلق عقلية فردية، تنحو ناحية التحليل بطرح أسئلة لفهم النصوص الدينية.
وبالتالي العقل كان يعمل ويقرر، حتى ولو كان النص هو كلمة الله، وهذا ما كان يولّد معرفة لآهوتية جديدة. فالعقل كما أدركه ألبرت ليس القدرة على الاستنتاج والصياغة الفكرية، فبمقدار قدرته على الملاحظة، والتقيد بالخبرة وتأويلها تأويلًا واضحًا، ومن هنا لم يكن المعلم مع تلاميذه مفسّرًا، بل مفكرًا، من خلال البحث والأسئلة فيصبح خلاقًا لفكرة جديدة.
في عام 1248، فتح ألبرت مركز دراسات لآهوتية في كولونيا، وهي من أهمّ مدن ألمانيا، وقد تتلمذ على يدية، تلميذًا نابغة رافقه من باريس إلى كولونيا، هو توما الأكويني. لم تتوقف العلاقة بين ألبرت وتوما، عند المعلم والتلميذ بل تطوّرت العلاقة إلى صداقة وتقدير مُتبادل، نجد هذه العلاقة الوثيقة بقوة، في رواية مأثورة تداولت بعد موت الأكويني وهي "أن ألبرت الأستاذ أعتزل العمل عام 1262م في دير في كولونيا، لكنه ترك ما كان فيه من هدوء وهو في السادسة والسبعين من عمره عام 1277م، ليدافع عن عقيدة تلميذه المتوفي توما الأكويني وعن ذكراه في جامعة باريس.
أماعن توما الاكوينى (Thomas Aquinas) (1225 – 1274م) في ريعان شبابه، كرّس نفسه للفقر والتأمل، والتحق بدير الدومينكان. لم يسر الأسرة التحاقه بالدير، فاختطفه أخوته، واحتجزوه في قلعة روكاسيكا Roccasecca لمدة عامين. أما هو فقد استثمر الوقت في دراسة الكتاب المقدس وحَفِظه عن ظهر قلب؛ لكن أخواته ساعدوه على الهروب من القلعة.
وذهب للدير وهناك تثبت في عضوية الدومينيكان، وبعدها توجه إلى باريس للدراسة تحت يد استاذه ألبرت الكبير، كان الأكويني، ثمرة إلتقاء نهضتين عرفهما القرن الثالث عشر في أوروبا وهما: تجديد إنجيلي، وتجديد اجتماعي وثقافي على جانب كبير من الأهمية.
أولًا: التجديد الإنجيلي ما عاشته الدومنيكية الناشئة (1215م).
الدومينيكان هم رهبان ووعاظ، تلقوا تدريب لآهوتي صارم، بهدف التصدي للبدع المنتشرة، من خلال الوعظ والتعليم. الجانب المثقف والمتعلم الذي تزامن مع رهبنة القديس فرانسيس"الأخوة الأصاغر".
ثانيًا: التجديد الاجتماعي والثقافي، وهو نمو الحياة المتطور، في بلديات المدن المتحررة كما ذكرت في المقدمة، ووجود الجامعات، التي كانت مركز حياة فكر مكثف، لا علاقة لها في منهجها ولا طلابها بالمدارس الرهبانية التي عرفتها القرون السابقة.
وبذلك كان الأكويني معاصرًا لتغيير في طرق الحياة، يرافقه تغيير في مواد التعليم الفكرية، فيما سُمي العلوم الإنسانية.
وقد استقى الأكويني من استاذه ألبرت الكبير، فكر أرسطو، وهو العالم الطبيعي والمراقب المنهجي. والفيلسوف، الذي بفكره الفلسفي، يعيد الإنسان إلى الأرض، من أجل حياة روحية تعاش كلها في هذا العالم. في نفس الوقت كان الفكر المسيحي قد اصطبغ على مدى إثني عشر قرن بالفلسفة الأفلوطونية، عالم الأفكار والمثالية. ورغم أن أرسطو كان تلميذ أفلاطون، فقد أعاد الأفكار إلى الواقع المحسوس، وانتهج عودة الإنسان من عالم الأفكار إلى حياة الواقع. فالحياة الاجتماعية والسياسية وحتى الروحية عند أرسطو، هي مكان إعمال العقل والحرية. في الإطار الفكري لأرسطو والعقلية المسيحية الأفلاطونية، إتخذ توما فلسفته الشخصية، لبناء مذهبه الإنجيلي.
كان توما شغوفًا بالإقتداء بالمسيح وبخدمة الكنيسة، بنى علمه الآهوتي على فلسفة أرسطو، وآمن بقدرة العقل على استقصاء الطبيعة واستخلاص معطياتها الأبدية، وكان شديد الحرص في منهجه على حرية الإنسان.
إن فكر توما ومشروعه الفلسفي يفترض فعل إيمان، وثقة تامة بأن سعادة العيش كإنسان على هذه الأرض هي ممكنة في الله وبقوة موت المسيح. فقد رأى مع تقليد القديس إريناوس أحد أباء الكنيسة، أن مجد الله هو أن يكون الإنسان حيًا.
لقد آمن الأكويني وعلّم " أن الإدراك والعقل والحرية، وكل ما يكون كرامة الإنسان، هي عطايا من الله يعترف الإنجيل بها من دون أن يعطلها. الخير مكون من مكونات الإنسان في فلسفة توما، وهو ينسب مصدره إلى إله صالح. ولذلك فإن توما يرى أن السعي إلى الله والسعي إلى السعادة يستندان في الأساس إلى نفس المصدر.
كانت فلسفة توما التي تفوّقت على فلسفة أرسطو، هي ربط عالم الأفكار والمثاليات بالمحسوس والواقع. فإن نظرة توما الجديدة ارتكزت على دعامتين: الله الذي دخل في التاريخ، والإنسان الذي تحقق فيه الربط بين الجسدي والروحي، وبين الطبيعة والروح. في التاريخ يتلاقى الخالق والمخلوق ويتعاونان، وفي هذا، تنمو طبيعة الإنسان في جميع أبعادها، وبالتجسد تصبح كلمة الله أقرب.
كان يتميز توما بقلب راهب متشوق دائمًا إلى العمق في الاتحاد بالله، كما أنه يضع للعقل مكانه عظيمة باعتبارة الاداة التي توصل الحقيقة. يُقال أنه تنبأ بأن أوروبا مقبلة على عصر العقل، وكان يرى أن من واجب الفيلسوف المسيحي أن يستعد لملاقاة هذه النزعة الجديدة في ميدانها.
إن فلسفة توما في ممارسة العقل، وحيوية الإيمان، لم تجد قبولًا في زمانه، فقد أُدينَت بعض أفكاره، ومنعت كتاباته لمدة خمسين عامًا، حتى جاءت تبرئته من البابا يوحنا يوحنا الثاتي والعشرون في عام 1323م.
أما الآن فهي تدرس في جميع كليات الروم الكاثوليكية، ووتعتبر أقوى أنظمة التفكير الفلسفي تأثيرًا وأبقاها على الزمن، لا تقل في ذلك عن الأفلاطونية والأرسطوية..
لقد ظلت مدرسة الأكويني قوية، رغم ضعف تاثير فلسفة أرسطو أثناء عصر النهضة، وقد عززت فكر هذه المدرسة من قوة حركة الإصلاح، بالتنقيب والدرس.
والحركة المماثلة التي شهدها القرن الثاني عشر والثالث عشر هي"عصر النهضة Renaissance". وهي التي تمثل الدعامات الفكرية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة.
وقد دب روح النهضة في كل مجالات الحياة وعلى فترات متتابعة من خلال الاهتمام بالحضارات القديمة وتاريخها وفلسفتها، ودراسة الآداب وخاصة الآداب اليونانية واللآتينية.، وكان رائد هذه الحركة دانتي.

(1265 – 1321م)Dante Alighieri دانتي اليجييري
بدأت النهضة في إيطاليا، بقيادة الشاعر الإيطالي الذي ولد في فلورنسا عام 1265م، ثم كرّس نفسه للدراسات الفلسفية في مدارس الدومنيكان. تولّد لدى دانتي منذ صغره، شعور عميق بوحدة الوطن الإيطالي، وكانت أول محطة يعمل من أجل وحدة الوطن هي ثورته على اللغة.

كان لغة الكلام العامية وتسمى "التوسكانية" غير لغة الكتابة، وهي اللآتينة لغة الدين والدولة، مما فصل عامة الناس عن الصفوة المثقفة والأحداث الجارية، وساعد على أميّة القاعدة العريضة من المجتمع. نجح دانتي في يجعل اللغة الشعبية الإيطالية هي لغة الكلام والكتابة. فأطلق عليه أبو اللغة الإيطالية، وبكتابته "الكوميديا الإلهية" "صنع" لسان الأمة الإيطالية ومهّد لها السبيل كي تُنشئ تراثها.
إحلال اللغة الشعبية بدل اللغة اللآتينية في كل أنحاء أوروبا، كان بمثابة ثورة كبرى رسخت دعائم القوميات الحديثة ومهدّت للديمقراطية لأنها أشركت الجماهير في قراءة نصوص القانون والسياسة، وكانت مقدمة لأزمة لحركة الإصلاح الديني لأنها أشركت الجماهير في قراءة نصوص الإنجيل وفهمه ومناقشته.
رغم أن الايمان كان هو الموجه لحياة دانتي وإنتاجه، فقد غضب عليه البابوات، وحكموا عليه في 1302م، بالنفي من بلاده، فلورنسا، ودفع غرامة باهظة، فإذا عاد إلى وطنه أعدم.
جريمة دانتي كانت هي تقديم مصلحة الوطن على مصلحة الأحزاب المتصارعة في مجالات السياسة والدين والتعليم، وتأليب الجماهير ضد السلطة، دفاعا عن العدالة والحرية.
كان دانتي يري أن الأخلاق هي التي تمنح الإنسان الإرادة الحرة، ولا سبيل إلى هذه الإرادة إلا بالعلم والفن. لقد جسّد دانتي بوادر إصلاح سياسي ولغوي مزعجين لمؤسسة الكنيسة، رغم أن الإصلاح في جوهره كان دنيويًا أكثر منه عقائديًا.
ويعتبر دانتي واحد من العظام في التاريخ، الذين وضعوا في مطلع عصر النهضة الأوروبىة أساس الدولة المدنية الحديثة التي تفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة السياسة، ويقوم فيها الحكام بالحكم وفق القانون، دون وساطة رجال الدين. ولولا هذه المغامرة الجريئة التي قام بها دانتي لمداواة النفوس وإصلاح العالم، لما أمكن ظهور الدولة القومية، ولا لحركة الإصلاح الديني! فهل لنا أن نبحث عن نتائج هذه الثورة؟!